الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/06/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- الدليل الثالث للاستصحاب ( التمسك بالأخبار ) / أدلة الاستصحاب / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 قلنا إن السيد الخوئي(قده) أجاب في مصباح الأصول بأن الحكم بوجوب الإعادة من الأحكام التعبديَّة ونحن لا نعرف ملاكات الأحكام فلعل هناك نكتة يعرفها الشارع وعقولنا لا تتوصل إليها تقتضي أن النجاسة لو كانت في تمام الصلاة وانكشفت بعد ذلك يحكم بالصحة ولو انكشفت في الأثناء لا يحكم بالصحة . وبالجملة إن إعمال الأولويَّة لا وجه له بعد كون الحكم تعبديّاً لا تُعرَف نكاته.
 وفيه:- إن الأولويّة التي نستفيدها تارةً تكون أولويَّة ظنيّة وهي لا عبرة بها كما هو واضح إذ هي لا تعدو الاستحسان وإعمال الرأي ، وأما إذا كانت أولويَّة قطعيَّة عرفيَّة فهذه تكون دلالةً في النص ، يعني يصير النصّ دالاً بسبب هذه الأولويَّة على الحكم الثاني الذي هو مقتضى الأولويّة ولا معنى لوفع اليد عن مثل هذه الأولويَّة وادّعاء أن الأحكام لا نعرف ملاكاتها لا معنى له بعد أن فرض أن الأولويَّة قطعيَّة عرفيَّة فإنها معتبرة وإلا يلزم من كلامه(قده) أن قوله تعالى ( ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) لا يدلُّ على حرمة الضرب ولا يمكن التمسك بالأولويَّة لأن نكات الأحكام لا نعرفها إذ لعلّ هناك نكتة خاصة في التأفف لا تأتي في الضرب فيكون الضرب جائزاً رغم أن التأفف حرام والذي هو مرتبة أقل فإن الأولويَّة العرفيِّة القطعيَّة لا يمكن الأخذ بها على كلامه وأي كلام هذا ؟!! فإذا قلنا إن الأولويّات العرفيَّة القطعيَّة لا نأخذ بها فلازمه أن الكثير من الأحكام سوف نعطلها مثل حرمة الضرب فلا نتمكن أن نقول إن ضرب الوالدين حرامٌ لأن الدليل قد دلَّ على حرمة التأفف ولم يدلّ على حرمة ضربهما والأولويَّة لا يمكن التمسك بها لأن الأحكام لا نعرف نكاتها ، وأي كلام هذا ؟! فهذا لا يمكن أن نقول به.
 وهذا كلام باطل إذ نقول إن الأولويَّة إذا كانت قطعيَّة عرفيَّة فسوف يتكوّن للدليل دلالة فتصير له دلالتان عرفيّتان الدلالة الأولى حرمة التأفف والدلالة الثانية حرمة الضرب وفقهنا مبنيٌّ على هكذا شيء وهو(قده) بانٍ على ذلك أيضاً فكيف يقول هنا بخلافه ؟!
 والأجدر في مقام الجواب أن يقال:- إن الأولويَّة ممنوعة من الأساس وإنما هي أولويَّة ظنيَّة ، والوجه في ذلك هو أن الإنسان لو أتى بعملٍ وانتهى منه ولكن انكشف لنا وجود خللٍ فيه وقد حصل هذا الانكشاف بعد الفراغ فربما نكتفي منه بالعمل ولا منه الاعادة لأن هذا يستلزم إلقاءه في المشقَّة ، وهذا بخلاف ما لو فرض أن الشخص قبل أن يكمل العمل التفت إلى وجود الخطأ في عمله فإنه في مثل هذه الحالة قد لا نتساهل معه باعتبار أنه لا يلزم إلقاءه في تلك المشقَّة العالية وهذه قضيَّة عرفيَّة وجدانيَّة فكيف يدّعى آنذاك حصول الأولويَّة العرفيَّة القطعيَّة ؟! كلا لا إنها تحصل فالشخص الذي أنجز مشروعاً وأكمله - كما لو صنع شخص وليمة وانتهى - ثم تبين بعد ذلك وجود خللٍ فيه فهل نطلب منه إعادة العمل ؟! وهذا بخلاف ما إذا انكشف الخلل في الأثناء فهنا يمكن أن نقول له بالإعادة وهذه قضيَّة عرفيَّة وجدانيَّة ، وعلى هذا الأساس تكون الأولويَّة ممنوعة من أساسها والإشكال مندفع من أساسه بلا حاجة إلى ما ذكره السيد الخوئي(قده).
 وقبل أن ننهي حديثنا عن هذه الصحيحة نود أن نلفت النظر إلى أنه قد يقال بوجود فقرة أخرى في هذه الصحيحة يمكن التمسك بها لإثبات حجية الاستصحاب:- وهي ما أشار إليه الإمام عليه السلام في جواب السؤال الرابع فإن زرارة قال:- ( قلت:- فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فاغسله ، قال:- تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقينٍ من طهارتك ) فإن هذه الفقرة - أعني قوله عليه السلام ( حتى تكون على يقين من طهارتك ) - تشير إلى حجيّة الاستصحاب - أي استصحاب النجاسة - لأن الثوب قد علم زرارة بأنه قد أصابته نجاسة ولكن لا يشخّص مكانها والإمام عليه السلام أمره أن يغسل كل المنطقة التي تحتمل أنه قد أصابتها النجاسة حتى يحصل لك يقين بالطهارة إذ لو لم يحصل اليقين بها فاستصحاب بقاء النجاسة يكون جارياً فلو لم يكن الاستصحاب المذكور حجَّة فلماذا علّل الإمام عليه السلام بقوله ( حتى تكون على يقين من طهارتك ) إنه لا داعي إلى ذلك بعد عدم جريان استصحاب النجاسة ، إذن لابد وأن استصحاب النجاسة يجري وهو حجَّة لذلك أمر الإمام عليه السلام بتحصيل اليقين بالطهارة.
 والجواب:-
 أولاً:- لا يتعيَّن أن تكون النكتة في العبير بقوله عليه السلام ( حتى تكون على يقين من طهارتك ) هي لاستصحاب - أي استصحاب النجاسة - بل لعل النكتة هي شرطيَّة الطهارة في الصلاة فإن الطهارة إذا كانت شرطاً معتبراً في الصلاة فالشروط يلزم إحرازها بنحو الجزم وإلا كيف يدخل المكلف في الصلاة وهو لا يحرز الشروط ؟! فلعل تعبير الإمام عليه السلام بقوله ( حتى تكون على يقين من طهارتك ) هو لأجل أن يحرز تحقق الشرط فإن الطهارة شرط في صحة الصلاة بقطع النظر عن جريان وعدم جريان استصحاب النجاسة فلنفترض أن استصحاب النجاسة لا يجري فبالتالي لا يجزم المكلف بأن ثوبه طاهر مادام يحتمل أن النجاسة لم تزل بعدُ فهذا الاحتمال مادام موجوداً فهو لم يحرز الطهارة فلأجل إحراز الطهارة قال له الامام عليه السلام ( حتى تكون على يقين من طهارتك ) وهذا لا ربط له باستصحاب بقاء النجاسة.
 وثانياً:- لو سلمنا ذلك فغاية ما يثبت هو حجيَّة الاستصحاب في هذه المساحة الضيّقة - أعني استصحاب النجاسة - ولا يثبت بذلك في المجالات الأخرى - أي كاستصحاب الكريّة أو العدالة .... أو غيرهما - فإنه عليه السلام لم يعلّل بقوله ( لا تنقض اليقين بالشك ) حتى نتمسك بأن لام اليقين هي لام جنسيَّة أو أن التعليل تعليلٌ بأمرٍ ارتكازي فهذا ليس بموجودٍ حتى نتمسك به كي نثبت التعميم وإنما الذي ثبت هو أن الإمام عليه السلام قال ( حتى تكون على يقين من طهارتك ) يعني لأجل أن استصحاب النجاسة فقط وفقط وبهذا العنوان - وهو استصحاب النجاسة - يجري فلعله هو بخصوصه حجّة ولا يثبت بذلك حجيَّة بقيَّة أفراد الاستصحاب في سائر الموارد.
 إذن حتى لو سلمنا بأن الأمام عليه السلام عبَّر بهذا التعبير لأجل استصحاب النجاسة فلا ينفعنا شيء إذ غاية ما يثبت هو أن استصحاب النجاسة حجّة أما أن الاستصحاب حجَّة في جميع الموارد فلا يثبت ذلك ، وبهذا ننهي حديثنا عن هذه الصحيحة.
 صحيحة زرارة الثالثة:- وهذه الصحيحة واردة في باب شكوك الصلاة ولم يذكرها صاحب الوسائل(قده) - على عادته - في الوسائل بشكلٍ كاملٍ وإنما وزَّعها على الأبواب [1] فذكرها مقطعّة . نعم ذكرها الشيخ الطوسي(قده) في التهذيب [2] والاستبصار [3] نقلها بسندٍ معتبر عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام وهذه الرواية ليست مضمرة وهي:- ( قال:- قلت له من لم يدرِ في أربعٍ هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين ، قال:- ركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه وإذا لم يدر في ثلاثٍ هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حالٍ من الحالات ).
 والاستدلال بها على حجيَّة الاستصحاب يتوقف على أن نفسِّر كلمة اليقين في قوله عليه السلام ( ولا ينقض اليقين بالشك ) باليقين بعدم الإتيان بالرابعة والشك نفسره بالشك في الإتيان بها ، يعني إن المكلف هو متيقن في بداية أمره أنه لم يأتِ بالرابعة إذ في الركعة الأولى هو متيقن بأنه لم يأت بالرابعة وفي الثانية كذلك والآن يشك هل أتى بها أو لا ؟ فيبني على ذلك اليقين وأنه لم يأت بالرابعة حتى يضيف إليها أخرى ، إن تمامية الاستدلال موقوفة على تفسير اليقين والشك بهذا الشكل.


[1] فقد ذكرها في أبواب الخلل في الصلاة ب10 ، ب11.
[2] التهذيب، الطوسي، ج2 ص186.
[3] الاستبصار، الطوسي، ج1، ص373.