الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:- الدليل الثالث للاستصحاب ( التمسك بالأخبار ) / أدلة الاستصحاب / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 الجواب الرابع:- إن الاشكال من أساسه مبتنٍ على قضيةٍ وهي أن زرارة حينما رأى النجاسة بعد الصلاة جزم بأنها عين السابقة ، أما إذا افترضنا أنه رأى نجاسةً وكان يحتمل أنها جديدة طرأت بعد الصلاة لا أنها عين النجاسة السابقة فهكذا فالإشكال يكون مندفعاً من أساسه فيقال إن الإمام عليه السلام قد طبّق الاستصحاب وأجراه إلى ما بعد رؤية النجاسة لإثبات أن الثوب كان طاهراً أثناء الصلاة باعتبار أن هذه النجاسة لا يجزم بأنها عين السابقة ومعه فلا مانع من جريان الاستصحاب ، ومما يدعم هذا تعبير زرارة حيث قال:- ( ثم صلّيت فرأيت فيه ) - أي بحذف الضمير وهو الهاء - ولم يقل ( فرايته ) أو ( فرأيتها ) إنه مادام قد عبّر بذلك فهذا يعني أن زرارة كان ملتفتاً إلى هذه القضية وحذفه للضمير لم يكن قضيّة عفويّة وإنما أراد أن يبدي احتمال كون هذه النجاسة نجاسة جديدة - يعني لما انتهيت من الصلاة رأيت نجاسةً أما أنها عين السابقة فلا أجزم بذلك - هكذا كان يريد أن يقول وإذا كان الأمر كذلك فالإشكال مندفعٌ من الأساس .
 ونلفت النظر أيضاً إلى أن زرارة في الفقرة الثانية قال:- ( فلما صلّيت وجدته ) يعني أنه أتى بالهاء في الفقرة الثانية بينما في الفقرة الثالثة التي هي محل كلامنا حذفها . إذن ذكره للهاء في الفقرة الثانية وحذفها في الفقرة الثالثة يعني أنه كان ملتفتاً للنكات ويريد أن يبيّن للإمام عليه السلام في الفقرة الثانية أني بعد الصلاة رأيت نجاسةً ولكن لا أدري أنها عين السابقة بنحو الجزم وهنا طبّق الإمام عليه السلام له الاستصحاب . وعليه فالإشكال مندفع من الأساس.
 وهناك اعتراضان على هذا الجواب:-
 الاعتراض الأول:- إن الأمر لو كان كذلك فلماذا حينما أجابه الإمام عليه السلام وقال ( لا تُعِد الصلاة ) استغرب وقال:- ولم ذلك ؟ فأجابه الإمام عليه السلام بالاستصحاب إن هذا الاستغراب لا وجه له إذا كانت النجاسة يحتمل أنها طرأت بعد الصلاة والمفروض أن زرارة من الاشخاص الذين يعرفون النكات وهو رجل جليل القدر وعظيم الشأن لا أنه إنسان عادي فلابد إذن أن نفترض أن هذه النجاسة يجزم زرارة بأنها عين السابقة حتى يكون استغرابه آنذاك شيئاً وجيهاً.
 وفيه:-
 أولاً:- إن فكرة الاستصحاب هي زماننا أصبحت واضحة بين الطلبة أما في الزمان السالف فمن قال إنها كانت واضحة بل قد اختلف فيها العلماء كما نقل الشيخ(قده) في الرسائل وقد نقل أحد عشر قولاً وأحد تلك الأقوال هو عدم الحجيّة ولم يكونوا يستدلون على الحجيّة بالروايات بل من كان يذهب إلى الحجيّة يستدل بقضايا أخرى أشرنا إليها في مقدّمة بحث الاستصحاب . إذن من الخطأ أن نفترض أن فكرة الاستصحاب كانت واضحة حتى في ذلك الزمن فإن هذا أوّل الكلام.
 وثانياً:- لو سلمنا أنها من الأفكار غير الخفيّة ولكن من أين لك أن زرارة قد سأل وهو في شيخوخته التي هي قمّة نضجه العلمي فلعله سأل في بدايات أمره ؟ إذن كون زرارة من أجلّة الأصحاب من حيث الدرجة العلميّة لا يمكن أن نتمسك به كشاهدٍ بعد احتمال أن السؤال قد صدر منه في أوائل حياته.
 وثالثاً:- لو قال قائل إن في الرواية دقّة فائقة تكشف عن أن زرارة حينما سأل كان في قمة نضجه العلمي .
 أجبنا:- بأن هناك بعض المؤشرات في الرواية تدل على أن الأمر ليس كذلك فهو مثلاً قد سأل في السؤال الرابع عن قضيّة العلم الإجمالي وقال:- ( قلت:- فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هي فأغسله ) إن هذا السؤال ركيك حيث من الواضح أنه ما دمت تدري أنه قد أصابه فلابد وأن تغسله للعلم الإجمالي بلا حاجة إلى سؤال ، وأيضاً سأل السؤال الخامس وقال:- ( فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ ) وهذا أيضاً من الأمور الواضحة فإن من شك في أصل الإصابة لا يلزمه الفحص وذلك لأجل الأصل وهذا هو أصل الاستصحاب يعني أنه لم تكن هناك إصابة ليست حاصلة والآن نشك في حصولها فنستصحب عدمها ، فلماذا لم يلتفت زرارة إلى هذا الاستصحاب الذي هو من الأمور الواضحة . إذن لا تتمكن أن نقول إن زرارة حينما سأل فقد سأل وهو في قمّة نضجه العلمي.
 الاعتراض الثاني:- إن من يقرأ الرواية يفهم أن المقصود حينما قال زرارة في السؤال الثالث:- ( ثم صليت فرأيت فيه ) أنه رأيت نفس عين النجاسة السابقة وإنما حذف الضمير استغناءً عنه بعد وضوح المطلب وأن الحوار حوار عن تلك النجاسة فقرينة السياق تبرّر حذف الضمير ولا حاجة إلى ذكره في كل سؤال . ولعله من هذه الناحية ذكر الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل أن هذا مخالفٌ للظاهر - أي حمل كلام زرارة على إرادة رؤية نجاسةٍ يحتمل أنها جديدة - ونصّ عبارته:- ( والثاني:- أن يكون مورد السؤال رؤية النجاسة بعد الصلاة مع احتمال وقوعها بعدها ...... إلا أنه خلاف ظاهر السؤال ) [1] ، فالشيخ الأعظم(قده) يرى أن هذا الاحتمال خلاف الظاهر ولعله لما أشرنا إليه.
 وفي ردِّ ذلك نقول:- نعم إن الاحتمال المذكور وجيه - يعني أن زرارة حينما حذف الضمير قد حذفه اعتماداً على ما يقتضيه السياق فإن سياق الأسئلة كلّه يدور حول رؤية النجاسة السابقة - ولكن هذا احتمال وجيه وذاك احتمال وجيه أيضاً فكلاهما وجيهان ومادام الأمر كذلك فيكفي هذا المقدار لدفع الإشكال فإن الإشكال يرد فيما لو استظهرنا أو جزمنا بأن المقصود هو رؤية نفس النجاسة السابقة أما إذا فرضنا أن كلا الاحتمالين كان وجيهاً فحينئذ لا يأتي الإشكال مادام يوجد احتمال أن النجاسة المرئية بعد الصلاة هي نجاسة جديدة ونفس تطبيق الإمام عليه السلام آنذاك للاستصحاب لعله يكون شاهداً ومنبّهاً على ذلك - يعني أن هذه النجاسة يحتمل أنها نجاسة جديدة-.
 وبالجملة:- الذي أريد أن أقوله هو أن هذا الإشكال - وهو أن الإمام عليه السلام كيف طبّق الاستصحاب والحال أن زرارة يجزم بأن هذه النجاسة هي عين السابقة - يتم ويرِد لو فرضنا أنه يوجد جزم بكون هذه النجاسة هي عين السابقة أما لو تردّد الأمر بين الاحتمالين وكان كل واحدٍ منهما وجيهاً فالإشكال يندفع من أساسه . إذن من خلال هذا كله اتضح أن هذا الجواب الرابع جواب وجيه ولكن بعد الالتفات إلى هذه الاضافة وهي أنا لا نريد أن نقول في هذا الجواب أن زرارة يقصد حتماً رؤية نجاسة جديدةٍ بل نقول إن العبارة تتحمّل كلا الاحتمالين ومادامت كذلك فالإشكال يكون مندفعاً من الأساس.
 ثم لو تنزلنا وقلنا إن الإشكال المذكور لا يمكن دفعه بهذه الأجوبة الأربع فنقول:- لو عجزنا عن دفع هذا الإشكال فهل يضرّ ذلك ويمنع من التمسك بهذه الرواية لإثبات حجيّة الاستصحاب أو أن بالإمكان أن نقول إن الرواية دالة على حجيّته غايته لا أنّا لا نعرف كيف طبق الإمام عليه السلام الاستصحاب على المقام ؟ فهي إذن واضحة في الكبرى - يعني أن الاستصحاب حجّة - ولكن هناك خفاء في تطبيق تلك الكبرى على المقام وخفاء كيفية التطبيق لا يعني أن أصل الكبرى يلزم أن نرفع اليد عنه ، وعليه فنأخذ بالكبرى ونقول هي دالة على حجيّة الاستصحاب ولكن لا نعرف كيف نطبق الاستصحاب المذكور على المقام فخفاء هذا لا يؤثر على استفادة الكبرى وحجيّة الرواية في أصل الاستصحاب ، فهل يمكن أن نقول بهذه المقالة أو لا ؟


[1] الرسائل، الأنصاري، تسلسل26، ص61.