الموضوع:- الدليل الثالث للاستصحاب ( التمسك بالأخبار ) / أدلة الاستصحاب / الاستصحـاب / الأصول العملية.
وفيه:- إن الوضوء وإن كان أمراً آنياً لو لاحظناه كغسلاتٍ ومسحاتٍ ولكنه بنظرة عرفية بل ربما تكون شرعية أيضاً هو له بقاء واستمراريّة واستعمالاتنا العرفية شاهدٌ على ذلك حيث تقول ( أنا عندي وضوء ولكن أحب أن أجدده ) بل توجد إشارة في نفس الرواية إلى هذا الاستعمال فإن زرارة قال:- ( الرجل تصيبه الخفقة والخفقتان وهو على وضوء ) فالوضوء إذن يطلق ويستعمل بمعنى الطهارة التي لها استمرارية ولا يختص استعماله بخصوص الغسلات والمسحات حتى يقال هي آنيّة وليست قابلة للبقاء ، وعليه فتطبيق الصحيحة على باب الاستصحاب شيءٌ وجيه لا مانع منه.
إن قلت:- هذا وإن كان وجيهاً إلا أن الآخر وجيه أيضاً فتصير الرواية آنذاك مجملة.
والمقصود هو أن ما ذكرناه من الاحتمال وهو أن الوضوء يستعمل بمعنى الطهارة هو شيء وجيه بلا إشكال وهو عرفيّ مقبول وذاك أيضاً شيء وجيه وهو أن الوضوء قد يستعمل بمعنى الغسلات والمسحات ويحتمل أن الصحيحة قصدت ذلك فكما يمكن تنزيل الصحيحة على باب الاستصحاب يمكن تنزيلها على باب قاعدة المقتضي والرافع ومادامت هي قابلة لكلا الاحتمالين عادت مجملة وكفانا هذا المقدار.
قلت:- إن الاحتمال الذي ذكرناه - أعني إرادة الاستصحاب وأن الوضوء استعمل بمعنى الطهارة دون نفس الغسلات والمسحات - هو الأوجه وهو الذي لابد من حمل الصحيحة عليه وذلك لقرينتين:-
القرينة الأولى:- إن الصحيحة قالت:- ( لأنك كنت على يقين من وضوئك فشككت ) فإنها ذكرت كلمة ( فشككت ) من دون ذكر المتعلّق للشك وهذا ينصرف الى إرادة أنك شككت في نفس ما تيقنت به لا أنك شككت في شيءٍ آخر يغاير ما تيقنت به ومن المعلوم إنه لو كان المقصود هو قاعدة المقتضي والرافع فالشك سوف يكون متعلقاً بالرافع - أي بحدوث النوم - أي فشككت في حدوث الرافع للمقتضي فصارت مغايرة بين متعلق الشك وبين متعلق اليقين بينما لو كان المقصود هو الاستصحاب يكون اليقين متعلقا بنفس الوضوء بمعنى الطهارة والشك يكون متعلق أيضاً بذلك - أي بالوضوء بمعنى الطهارة - غايته في بقائه وليس في أصل حدوثه ولكن بالتالي متعلق الشك ومتعلق اليقين واحدٌ ، إذن حذف متعلق الشك يفهم منه عرفاً أن متعلقه هو نفس متعلق اليقين وذلك يلتئم مع الاستصحاب دون قاعدة المقتضي والرافع.
القرينة الثانية:- التعبير بكلمة النقض فإن النقض لا يصح استعماله إلا مع وحدة المتعلقين فحينئذ يقال إن الشك صار ناقضاً لليقين أو ليس بناقض ؟ وأما مع اختلاف المتعلقين فاستعمال كلمة النقض مجازي وعلى خلاف الظاهر . إذن نفس استعمال كلمة النقض وأيضاً حذف متعلق كلمة الشك شاهدان على كون المقصود هو الاستصحاب دون قاعدة المقتضي والرافع.
الوجه الثاني:- إن الصحيحة لو كانت ناظرة إلى الاستصحاب - أي استصحاب بقاء الوضوء أو الطهارة الوضوئية - فمن المناسب أن هذا الاستصحاب لا يجري وذلك لأن المورد من الأصل السببي والمسبَّبي أو بالأحرى الموضوعي والحكمي ومع وجود الأصل الموضوعي لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي ، أما كيف يكون المقام من هذا القبيل ؟ وذلك باعتبار أن المكلف يشك هل حدث له نومٌ أو لم يحدث له نوم ؟ فيجري استصحاب عدم تحقق النوم ومعه لا تصل النوبة إلى استصحاب بقاء الوضوء - أو بتعبير آخر بقاء الطهارة - فان الشك في بقاء الوضوء ناشئ من الشك في حدوث النوم والأصل الجاري بلحاظ النوم يصير أصلا سببيّاً والجاري بلحاظ الوضوء يصير مسببَّياً وكلما كان الأصل السببي قابلاً للجريان فلا تصل النوبة إلى الأصل المسبَّبي وهنا نقول إنه لو كان الإمام عليه السلام يريد أن يجري الاستصحاب فمن المناسب أن يجري استصحاب عدم تحقق النوم لأنه أصل سببي وموضوعي لا أن يجري استصحاب الطهارة والوضوء فإنه مسبَّبي ومع قابلية الأصل السببي للجريان لا تصل النوبة إلى الأصل المسبَّبي والحال أن الإمام عليه السلام أجرى الاستصحاب في الوضوء والطهارة لا في النوم لأنه قال ( وإلا فإنه على يقين وضوئه ولا تنقض اليقين ابداً بالشك ) - يعني إذن أنت بمقتضى الاستصحاب متوضئ - فأجرى الاستصحاب في الوضوء ولو كان قاصداً إجراء الأصل السببي - يعني في النوم - لكان من المناسب أن يقول ( وإلا فإنه على يقين من اليقظة ولا تنقض ... ) والحال أنه لم يعبِّر بذلك وإنما قال ( وإلا فإنه على يقين من وضوئه ) وهذا معناه أنه أجرى الاستصحاب في الوضوء . إذن إجراء الإمام الاستصحاب في الوضوء دون عدم النوم يدل على أنه ليس ناظراً في طرح هذه القاعدة إلى الاستصحاب بل إلى قاعدة المقتضي والرافع فإنه في القاعدة المذكورة لا يوجد أصل سببي وأصل مسبَّبي فإن هذا الكلام لا يأتي فيها بل هو يأتي في باب الاستصحاب فقط ، فإذا كان الإمام عليه السلام قاصداً الاستصحاب بالقاعدة المذكور فكان من اللازم أن يجريه في عدم النوم لا أن يجريه في الوضوء.
ويجدر الالتفات إلى قضية:- وهي أن هذا الإشكال قد يجعل تارةً منطلقاً لحمل الصحيحة على قاعدة المقتضي والرافع وهو ما كنا نقصده ونريده في هذا الوجه ، ولكن ربما يستعان بهذا البيان لشيءٍ آخر وهو حمل الصحيحة في صدرها على الشبهة المفهوميّة فإنه لو حملناها على ذلك ارتفع هذا الإشكال أيضاً ، والمقصود هو أن الصحيحة في بدايتها قالت:- ( الرجل تصيبه الخفقة والخفقتان وهو على وضوء ) والإمام عليه السلام أجابه بأنه لا يعير أهميّة ثم سأله ( فإن حُرِّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ؟ قال:- لا حتى يأتي من ذلك أمر بيّن ) ونحن ذكرنا أن هذا السؤال يوجد فيه احتمالان احتمال أن يكون سؤالاً عن شبهةٍ مفهوميّةٍ يعني أن النوم الناقض هل أن مفهومه وسيع ويشمل الخفقة والخفقتين أو هو ضيّق فلا يشمله ؟ إن هذا شك بنحو الشبهة المفهومية ، ويحتمل أن يكون السؤال ناظراً إلى شبهةٍ حكميّةٍ لا مفهوميّة - هكذا ذكرنا سابقاً - يعني أن زرارة يعلم أن الخفقة ليست نوماً جزماً ولكن يحتمل أنها ناقض آخر في عرض النوم فيسأل عن حكمها.
إنه إذا اتضح هذا نقول:- هذا الإشكال الذي ذكرناه قد يجعل تارةً منطلقاً إلى ما أشرنا إليه - أي إلى حمل الصحيحة على قاعدة المقتضي والرافع دون الاستصحاب - وقد يستفيد شخص آخر من هذا الإشكال في مجالٍ آخر ويقول إن صدر الرواية - حينما سأل زرارة - ناظر إلى الشبهة المفهوميّة دون الحكميّة فإنه إذا كانت الشبهة مفهوميّة والسؤال عن سعة النوم الناقض فالاستصحاب سوف لا يجري في النوم لأنه لا يمكن جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة إذ المورد يكون مردّد بين اليقين بالبقاء واليقين بعدم البقاء ولا يوجد شك فلو فرض مثلاً أنا لا ندري أن زيداً حينما ارتكب الصغيرة هل انتقضت عدالته أو لا ؟ فلا يمكن إجراء استصحاب العدالة فإن هذه شبهة مفهوميّة ولا يوجد فيها شك في البقاء إذ الذي يراد استصحابه هل هو العدالة بمفهومها الوسيع أو بمفهومها الضيق ؟ أما بمفهومها الوسيع - يعني أن العدالة تصدق على من ترك الكبيرة حتى لو كان فاعلاً للصغيرة - فإنا نجزم ببقائها ولا شك في ذلك وأما إذا كانت ذات مفهومٍ ضيق وتختص بمن ترك الاثنين معاً الصغائر والكبائر فهذا نجزم بانتقاضه فنستصحب ماذا إذن ؟ فالعدالة بذلك المفهوم نجزم ببقائها والعدالة بهذا المفهوم نجزم بارتفاعها ومن هنا قال الأصوليون إن الاستصحاب لا يجري في الشبهات المفهوميّة ، وإذا قبلنا بهذا نأتي إلى المقام ونقول إنه إذا كانت الشبهة مفهوميّة فالاستصحاب لا يجري في النوم ولذلك أجراه الإمام عليه السلام في الوضوء . إذن إجراء الإمام الاستصحاب في الوضوء دون عدم النوم قد يستفاد منه مرّة لإثبات أن الصحيحة ناظرة إلى قاعدة المقتضي والرافع دون الاستصحاب وقد يستفاد منه أخرى لإثبات أن سؤال زرارة كان عن شبهةٍ مفهوميّةٍ ولأجل أنه كان ناظراً إلى شبهة مفهوميّة لم يجرِ الإمام عليه السلام الاستصحاب في عدم النوم لأنه شبهة مفهوميَّة وفي الشبهة المفهوميَّة لا يجري الاستصحاب وأجراه في الوضوء ، هذه فائدة جانبية ظريفة لا بأس بالالتفات إليها ، ولكن المهم وروح الإشكال هو أنه لو كانت الرواية ناظرة إلى الاستصحاب فكان من المناسب إجراء الاستصحاب في النوم - أو عدم النوم - لا إجرائها في الوضوء والحال أن الإمام عليه السلام أجرى الاستصحاب في الوضوء . إذن يتبين من خلال هذا أن الصحيحة ليست ناظرة إلى الاستصحاب لأجل هذا الإشكال بل هي ناظرة إلى قاعدة المقتضي والرافع.