الموضوع:- النسبة بين الاستصحاب ومعارضه / الاستصحـاب / الأصول العملية.
السيرة على التمسك بالاستصحاب:-
استدل على حجية الاستصحاب بالسيرة ، والحديث تارةً يقع عن الصغرى وأنه هل انعقدت سيرة حقاً أو لا ؟ وأخرى بلحاظ الكبرى يعني لو سلمنا انعقاد السيرة فهل هي حجّة وممضاة أو لا ؟
أما بالنسبة إلى الصغرى:- فقد ادعى بعضٌ أن السيرة قد انعقدت على العمل بالاستصحاب ، ولعل أول من ادعاها العلامة في نهايته ، وهذا ينبغي أن يكون نقطة امتاز له(قده) من ناحيتين:-
الأولى:- أصل التمسك بالسيرة فإن القدماء لم يتداول بينهم ولم يكن التمسك بالسيرة مألوفاً بينهم فالتفاته إلى ذلك وأنه يمكن التمسك بها لإثبات الأحكام شيءٌ هو مورد التقدير والتثمين.
والثانية:- التمسك بها في خصوص الاستصحاب.
بل صعّد بعضهم اللهجة وقال:- إن نظام الحياة والمعيشة يختلّ إذا لم يفترض بناء العقلاء على الاستصحاب والأخذ بالحالة السابقة فإن التاجر يكاتب ويراسل غيره وذاك يرسل البضاعة وهذا يرسل الثمن فلولا الاستصحاب يحتمل أن من تُرسل إليه البضاعة يموت قبل أن تصل إليه البضاعة ومن يرسل الثمن يحتمل أن البائع يموت قبل أن يصل إليه الثمن فينبغي أن تتوقف عجلة الحياة.
وفي المقابل أنكر بعضٌ ذلك كما سوف نرى ، ونقل الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل دعوى بعضٍ هذه السيرة حيث قال:- ( ومنها بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم كما ادعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخر عنه وزاد بعض أنه لولا ذلك لاختل نظام العالم رأساً من عيش بني آدم ، وزاد آخر أن العمل على الحالة السابقة أمر مركوز في النفوس حتى الحيوانات إلا ترى أن الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء والطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها ....)
[1]
ولكنه أنكر ذلك ، ووافقه على ذلك تلميذه الشيخ الخراساني(قده) والسيد الخوئي(قده) أيضاً ، فالشيخ الخراساني ذكر في الكفاية - ومضمون ما ذكره قد أشار إليه الشيخ في الرسائل أيضاً - أن العقلاء قد يعملون بالحالة السابقة لأجل الاحتياط مرّة كمن أطلبه مالاً فأذهب إليه وما ذاك إلا من باب الاحتياط على مالي لدنياي أو قد يعملون بالحالة السابقة من باب الاطمئنان ببقائها ، وقد يعملون بها لأجل الظن ، كما أنهم قد يعملون بها لأجل الغفلة كما في مسألة الطيور والحيوانات التي تعود إلى أماكنها . إذن العقلاء يعملون بالحالة السابقة ولكن لأجل المناشئ الأربعة التي أشرنا إليها وسكت بعد هذا ولم يذكر شيئاً.
وكان من المناسب له(قده) أن يتمم المطلب فإن هذا المقدار ناقص إذ يورد عليه أنه لو اكتفيت بهذا المقدار فأنت بالتالي قد سلّمت بانعقاد السيرة على الأخذ بالحالة السابقة بيد أن المنشأ مختلف وما دمت قد سلّمت انعقادها فلا يضرّنا بعد هذا اختلاف المنشأ فالعقلاء ما داموا يعملون على طبق الحالة السابقة فنقول آنذاك حيث لم يردع الشارع فيثبت الامضاء واختلاف منشاء السيرة لا يهم وإنما الذي يهمنا هو أن تنعقد سيرة حتى نقول حيث أن الشارع سكت عن الردع فذلك يكشف عن امضائها.
إذن لابد من تتميمٍ حتى لا يرد هذا الاشكال ولعله حذفه من باب وضوح المطلب والتتميم هو أن العقلاء يعملون بالحالة السابقة إذا فرض أحد هذه المناشئ أما إذا لم تكن هذه المناشئ ثابتة - يعني بأن فرض أن المورد ليس مورد الاحتياط ولا الاطمئنان ولا الظن والغفلة - بأن كان الشخص ملتفتاً وعاقلاً فإنه في مثل ذلك هل يعمل العاقل على طبق الحالة السابقة ؟ كلا لم يثبت ذلك ، وهو(قده) يريد أن يبين هذا المطلب يعني أن العقلاء لا نحرز أنهم يعملون بالحالة السابقة عند فقدان هذه المناشئ الأربعة فإن هذه المناشئ ليست موجودة دائماً بل قد تكون مفقودة فإنه عند فقدانها لا نحرز عمل العقلاء بالحالة السابقة فعلى هذا الأساس كيف نثبت وجود سيرة وسيعة حتى نقول إن السكوت يدل على امضائها وبالتالي يثبت حجيّة الاستصحاب في مطلق الموارد ؟ كلا لا يثبت ذلك . إذن لابد من هذا التتميم الذي ذكرناه
وعلى أي حال أنكر الشيخ الخراساني(قده)
[2]
انعقاد السيرة ووافقه على ذلك السيد الخوئي(قده)
[3]
.
وأضاف السيد الخوئي(قده) قائلاً:- إن العقلاء لو كانوا يعملون بالحالة السابقة حقاً ويأخذون بها فلابد وأن يكون ذلك لنكتةٍ عقلائيةٍ وإلا يلزم التعبّد في حق العقلاء لو لم نفترض وجود نكتة وحيث أن العقلاء لا تعبّد في أفعالهم وسلوكهم فحتماً توجد نكتة عقلائية ولو كانت هذه النكتة موجودة حقاً لاطلعنا عليها إذ أننا من العقلاء وحيث لم نطّلع عليها فلا نكتة وبالتالي فلا سيرة.
ولكن ذهب بعض الأعلام في المقابل إلى انعقاد السيرة ومنهم الشيخ النائيني(قده) فإنه ادعى أن الله عز وجل أودع في فطرة الإنسان وألهمه العمل على طبق الحالة السابقة خوفاً على نظام الحياة والمعيشة من الاختلال حيث قال:- ( فعمل العقلاء على الحالة السابقة ليس لأجل الرجاء ولا لحصول اطمئنان بل لكون فطرتهم جرت على ذلك فصار البناء على بقاء المتيقن من المرتكزات في أذهان العقلاء )
[4]
، وقريب من ذلك ما ذكر في أجود التقريرات حيث قال:- ( إن التعبد بالشك من العقلاء
[5]
وإن لم يكن في نفسه معقولاً إلا أنه يمكن أن يكون ذلك بإلهام من الله تعالى حتى لا تختل أمور معاشهم ومعادهم فإن لزوم اختلال النظام مع التوقف عن الجري على الحالة السابقة مع الشك واضح فلأجله جعل الله تعالى الجري على طبقها من المرتكزات في أنفسهم .... )
[6]
، وسلم الشيخ العراقي(قده) في نهاية الافكار
[7]
بالسيرة في مجال الأغراض التكوينية دون الأغراض التشريعية والدينية يعني بتعبير آخر في قضايا المراسلات من تاجر لآخر فهذه نسميها قضايا تكوينية وليست شرعية ولا دينية فهذه قد انعقدت السيرة على الأخذ بالحالة السابقة - أما في مجال التشريعات والقضايا الدينية والأوامر والنواهي لم تثبت السيرة المذكورة ، هكذا ذكر(قده) وقد وافقه السيد الشهيد(قده) على انعقاد السيرة أيضاً - أي على الأخذ بالحالة السابقة -.
وعلى أي حال اختلفت كلمات الأعلام في هذا المجال فمنهم من قبل انعقاد السيرة ومنهم من رفض ذلك ونحن من المتوقفين في هذا المجال فإنا لا نرى وضوحاً في انعقاد السيرة ومن ادعاها فلا نقف أمامه فهذه قضايا وجدانية ، ولكن لو فرضنا انعقاد السيرة وتماميتها ننتقل إلى البحث عن الكبرى.
وأما من حيث الكبرى على تقدير التسليم بالصغرى:- فنطرح تساؤلين:-
التساؤل الأول:- كيف نصوغ السيرة بشكلٍ يكون السكوت وعدم الردع كاشفاً عن الإمضاء فإن السيرة لابد وأن تصاغ بشكلٍ يمكن أن يستفاد الإمضاء من عدم الردع ؟
التساؤل الثاني:- هل الردع منتفٍ أو يمكن دعوى ثبوته من خلال الآيات الناهية عن اتباع الظن أو من خلال نصوص البراءة ؟
أما بالنسبة إلى التساؤل الأول:- فيمكن أن تصاغ السيرة بأشكالٍ ثلاثة:-
الشكل الأول:- أن يدعى أن السيرة في عهد المعصوم عليه السلام قد جرت على العمل بالاستصحاب في كِلا المجالين - أي مجال الأغراض التكوينية ومجال الأغراض التشريعية - فإنه لو تمّ هذا فسكوت المعصوم عن الردع يدل على إمضائها في المجال التشريعي الذي هو محل كلامنا.
الشكل الثاني:- أن نفترض أن السيرة قد جرت على الأخذ بالحالة السابقة في خصوص مجال الأغراض التكوينية كما قال الشيخ العراقي(قده) ولكن رغم هذا نستفيد الإمضاء من عدم الردع ببيان أن هذه السيرة في مجال الأغراض التكوينية حيث يحتمل في يوم من الأيام أن تتسرب الى مجال الأغراض التشريعية فمن المناسب للمعصوم أن يأخذ الاحتياطات المسبقة ويقول لهم ( هذا حقٌ في مجال الأغراض التكوينية فقط أما في مجال الأغراض التشريعية فليس لكم حق في تسريتها ) فلابد وأن ينبّه هكذا ، وهذه طريقة ظريفة لاستكشاف الإمضاء رغم الاعتراف بأن السيرة جارية في مجال الأغراض التكوينية فقط ولكن رغم ذلك نستفيد منها لإثبات الإمضاء في الشرعيات أيضاً.
الشكل الثالث:- أن ندعي أن العقلاء يعملون بالاستصحاب في مجال الأغراض التكوينية والأغراض التشريعية ولكن فيما بينهم بمعنى أنه إذا كان أحدهم مولىً والآخر عبداً أو كان أحدهم أبا والآخر ابناً وأصدر المولى أو الأب أوامراً فهنا يأخذون بالاستصحاب أيضاً - أي في مجال الأوامر والنواهي العقلائية - وحينئذ يقال حيث أن هذه السيرة في هذا المجال يحتمل أن تتسرب في يوم من الأيام إلى الأوامر والنواهي الشرعية ومن المولى الشرعي الحقيقي فلابد من الردع المسبق عنها . وهذا الشكل في الحقيقة كالشكل الثاني من حيث الروح ولكنه يختلف من حيث الصياغة ففي الثاني خُصِّصت السيرة بمجال الأغراض التكوينية العقلائية والثالث عمّم السيرة لمجال الأغراض التكوينية العقلائية ومجال الأغراض التشريعية العقلائية ، وهذا على خلافه في الشكل الأول فإنا كنا ندّعي فيه السيرة في التكوينيات وفي الشرعيات للمولى الشرعي لا الشرعيات العقلائية.
وعلى أي حال لابد وأن تدّعى السيرة بأحد هذه الأشكال الثلاث حتى نستفيد من السكوت الإمضاء ، وأحسن هذه الأشكال هو الثاني دون الأول ودون الثالث إذ لم تثبت صغراه.
[1]
تراث الشيخ الأنصاري تسلسل 26 ص 94 ، 95 .
[2]
الكفاية ص387 طبع مؤسسة آل البيت.
[3]
مصباح الاصول ج3 ص11 ط قديمة.
[4]
فوائد الاصول ج4 ص332.
[5]
والمقصود هو ( إن التعبد بالحالة السابقة عند الشك ).
[6]
اجود التقريرات ج2 ص357 ط قديمة.
[7]
نهاية الافكار ج 45 ص53.