الموضوع:- هل الاستصحاب أصل أو أمارة ؟ ، النسبة بين الاستصحاب ومعارضه / الاستصحـاب / الأصول العملية.
وفي هذا المجال يمكن أن نقول:- نسلم أنه لا توجد قوَّة في الاحتمال لإنكار كاشفية الحدوث عن البقاء بنحو الظن وإن قال بعضٌ بذلك ، وأيضاً لا قوَّة في المحتمل لعدم انحصار مورد جريان الاستصحاب ، ولكن مثل هذه الحالة يواجهها العاقل في حياته - يعني أن العاقل يواجه أحياناً قضية يدور الأمر فيها بين بقاء الحالة السابقة وبين عدم البقاء - والمفروض أنه يريد أن يعطي منهجاً كليّاً بيد عبيده وأتباعه لا أنه يريد أن يعطي منهجاً خاصاً في كل موردٍ بمعنى أن يتصدى في هذا المورد الذي يدور الأمر فيه بين بقاء الحالة السابقة وعدمها ويدقق فيه ويلاحظ أن أيهما أقوى وهكذا في المورد الثاني وهكذا في المورد الثالث ... وهكذا إن هذه قضية ليست عمليّة إذ يبقى المولى دائماً يتابع بنفسه كل مورد بخصوصه وهذه قضية صعبة فإنه يريد أن يعطي منهجاً كليّاً بيد أتباعه والمناسب في مثل هذه الحالة التي لا يوجد فيها قوَّة في الاحتمال ولا قوَّة في المحتمل أن يجعل التخيير فيخاطب أتباعه ويقول ( أنتم مخيرون إذ لا توجد قوَّة في الاحتمال ولا قوَّة في المحتمل فأنتم مخيرون كلما دار الأمر بين احتمال البقاء وعدم البقاء مع فرض اليقين السابق بالحدوث ) إن هذا التخيير ممكن ، ويمكن أن يتبع شيئاً آخر أيضاً ويقول ( حيث إن الحالة العامة للإنسان هو التمايل والتفاعل النفسي مع الحالة السابقة أكثر فأنا أجعل لكم بنحو المنهج الكليّ لزوم الأخذ بالحالة السابقة ) وهذا ممكن أيضاً ، والاستصحاب نشأ من ذلك - أي من ترجيح احتمال البقاء - لا من ناحية قوَّة الاحتمال لفرض أنه لا قوَّة في الاحتمال ولا من ناحية قوَّة المحتمل لفرض صعوبة تشخيص قوَّة المحتمل وإنما لأجل أن التفاعل النفسي للناس عــادةً هــو مــع الحالــة السابقــة المتيقنــة فيجعلــوا الحكــم بالبقــاء والــذي نعبِّـر عنـه نحـن بـ( الاستصحاب ).
إذن حجيّة الاستصحاب هي حكم ظاهري ولكن لم تنشأ من ناحية قوَّة الاحتمال ولا من قوَّة المحتمل وإنما لأجل التفاعل مع الحالة العامة للناس كما أوضحنا .
وقد تسأل وتقول:- لم لا نعدّ ذلك أمارة وليس أصلاً ؟ أوليس هذا ترجيحاً بلا مرجّح فإنه مادام لا توجد قوَّة في المحتمل فلماذا تعدّه أصلاً ؟
والجواب:- إن الأصل كما ذكرنا سابقاً هو مصطلح أصولي يقال بالنسبة إلى كل حكم ظاهري لا يكون حجّة في لوازمه غير الشرعية وهنا الأمر كذلك أيضاً فلذلك جعلناه أصلاً فإن تلك النكتة التي أشرنا إليها - وهي تفاعل الناس مع الحالة السابقة - تختص بمجرى الاستصحاب وما يجري به الاستصحاب دون لوازمه فلو كانت الحالة السابقة هي حياة الولد فتلك النكتة تقتضي الحكم ببقاء حياة الولد لأنها هي الحالة السابقة وأما نبات اللحية فليست الحالة السابقة هي ذلك بل الحالة السابقة هي العدم فلا معنى للحكم بنبات لحيته بعد الحكم بحياته إذ تلك النكتة التي أشرنا إليها تختص بما إذا كانت الحالة السابقة هي ثبوت الشيء كالحياة فإنها كانت ثابتة فنقول هي ثابتة الآن وأما نبات اللحية فليست الحالة السابقة لها هي الثبوت بل هي العدم فلا يمكن الحكم بنباتها بل بخصوص الحياة ، إنه لأجل اختصاص النكتة المذكورة بخصوص حالة تواجد الحالة السابقة فلا يكون الاستصحاب حجّة في لوازمه غير الشرعية ، ومن هنا يكون المناسب عدّه في قائمة الأصول لا في قائمة الأمارات ، وهذه نكتة ظريفة يجدر الالتفات إليها.
النسبة بين الاستصحاب ومعارضه:-
هناك سؤال حاصله:- لو فرض أن الاستصحاب في موردٍ كان له معارض فهل نلاحظ النسبة بين نفس الاستصحاب في هذا المورد الجزئي وبين ذلك المعارض أو أنه نلحظها بين دليل حجية الاستصحاب - أعني مثل صحيحة زرارة - وبين ذلك المعارض ؟
والجواب:- وربما تختلف النسبتان ففي الملاحظة الأولي قد تكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق وفي الملاحظة الثانية قد تكون هي العموم من وجه وقد تكون بالعكس.
وبكلمة أخرى:- إنه في باب خبر الثقة إذا وجد شيء معارض له فالنسبة نلحظها بين نفس خبر الثقة في هذا المورد وبين ذلك المعارض ولا نلحظ النسبة بين دليل حجيّة خبر الثقة - أعني مثل آية النبأ - وبين ذلك المعارض ، وهل الأمر في الاستصحاب كذلك أو أنا نلحظ النسبة بين دليل حجيّة الاستصحاب - أعني صحيحة زرارة - وبين ذلك المعارض فأيهما هـو المنـاسب والصحيـح ؟
ربما ينسب إلى السيد بحر العلوم(قده) - على ما توحي به عبارة الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل
[1]
- أن النسبة نلحظها بين نفس الاستصحاب وبين ذلك المعارض وليس بين دليل حجيّته ، فمثلاً إذا تعارض أصل الحليّة - أي
( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) - مع الاستصحاب
[2]
فيقدَّم الاستصحاب باعتبار أنه خاص بهذا المورد بينما أصل ( كل شيء لك حلال ) أعمّ ومطلقٌ يشمل هذا المورد وغيره أما استصحاب الحرمة فهو ناظر إلى هذا المورد بالخصوص فيصير الاستصحاب بالنسبة إلى أصل الحليَّة بمثابة الخاص إلى العام . ولعل النكتة في ملاحظة النسبة هكذا هي أن الاستصحاب أمارة فيصير كخبر الثقة وكما أنه في خبر الثقة نلحظ النسبة بين نفس خبر الثقة وبين المعارض فكذا هنا.
وأشكل عليه الشيخ الأعظم(قده) وقال:- هذا قياس مع الفارق فإن خبر الثقة هو دليل على الحكم وليس نفس الحكم ومعه يكون من المناسب ملاحظة النسبة بينه وبين المعارض الآخر ، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنه ليس دليلاً على الحكم بل هو نفس الحكم ببقاء ما كان ومعه لا معنى لملاحظة النسبة بين نفس الاستصحاب وبين معارضه بل المناسب ملاحظة النسبة بين دليل الاستصحاب - أي دليل الحكم - وبين المعارض لا بين نفس الاستصحاب وبين المعارض فإن الاستصحاب حكم لا دليلاً على الحكم . نعم اصطلح الأصوليون بمصطلح الاستصحاب وهذا قد يوهم الطالب ويوحي إليه بأن الاستصحاب دليلٌ على الحكم والحال أن نفس الاستصحاب هو مصطلح تبرع به الأصوليون وإلّا فروحه هو الحكم الشرعي بـ( لا تنقض اليقين بالشك ) لا أن الاستصحاب دليل على الحكم.
وذكر السيد الخميني(قده) في رسائله
[3]
أن المناسب هو التفصيل ، فإن قلنا أن الاستصحاب أمارة فالمناسب ملاحظة النسبة بينه وبين معارضه وإن قلنا أنه أصلٌ فالمناسب ملاحظة النسبة بين دليله وبين المعارض .
إذن أصبح لدينا ثلاثة آراء في هذه المسألة.
[1]
ترث الشيخ الأنصاري تسلسل الكتاب 26 ص19.
[2]
أي استصحاب الحرمة.
[3]
الرسائل الاصولية ج1 ص74.