الموضوع:- الفارق بين الاستصحاب وبقية القواعد / الاستصحـاب / الأصول العملية.
الفارق بين الاستصحاب وبقية القواعد:-
هناك قواعد ثلاث غير الاستصحاب وهي استصحاب القهقرى وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع فلو بني على حجيّة هذه القواعد الثلاث نسأل:- ما هو الفارق بين الاستصحاب وبينها ؟ ونتكلم أوّلاً عن الفارق بين الاستصحاب العادي واستصحاب القهقرى ثم عن الفارق بينه وبين قاعدة اليقين ثم بينه وبين قاعدة المقتضي والشك في الرافع:-
الفارق بين الاستصحاب العادي واستصحاب القهقرى:-
إنه في الاستصحاب العادي المألوف يكون المتيقن ثابتاً في الزمان السابق بينما الشك يكون بلحاظ الآن ونسحب الحالة المتيقنة السابقة إلى حالة الشك - يعني إلى الآن - فيثبت أن تلك الحالة المتيقنة السابقة هي موجودة الآن ، وأما في استصحاب القهقرى فيفترض العكس - يعني يكون المتيقن ثابتاً الآن بينما الشك يكون بلحاظ الماضي - من قبيل ما يتداول في علم الأصول فإن صيغة ( إفعل ) إذا أردنا إثبات دلالتها على الوجوب فنقول هكذا:- ( إن المتبادر منها الآن في عرفنا هو الطلب الوجوبي ) وهذا كما تعرف لا يكفي وحده لاستنباط الحكم الشرعي فإن المهم هو إثبات دلالتها في زمن صدور النصّ - يعني أنها كانت ظاهرة في الطلب الوجوبي في زمن النص - وإلّا فثبوت كونها كذلك الآن لا ينفعنا شيئاً فالمهم هو إثبات هذه الدلالة بلحاظ عصر النصّ فكيف نثبت ذلك ؟ وهنا قيل بأنا نتمسك بالاستصحاب - أي نستصحب هذه الحالة المتيقنة الآن إلى عصر النص الذي هو زمان الشك - فيثبت أن هذه الكلمة في عصر النصّ هي ظاهرة في ذلك أيضاً ، ومن خلال هذا الاستصحاب نثبت معاني الألفاظ في عصر النصّ ولولا هذه الطريقة لم يمكن إثبات ذلك ، وعبَّر القدماء عن استصحاب القهقرى في كلماتهم كما قرأنا في المعالم بـ( أصالة عدم النقل ) حيث كان صاحب المعالم يقول:- ( إن المتبادر من صيغة إفعل هو الطلب الوجوبي
[1]
وبضمّ أصالة عدم النقل يثبت المطلوب ) فإن المقصود من أصالة عدم النقل هو استصحاب القهقرى.
وهناك سؤال وهو:- كيف نثبت حجيّة استصحاب القهقرى فإنه يحتاج إلى دليلٍ ؟ هذا قد تأتي الإشارة إليه في محلّه المناسب ونحن هنا نريد أن نبين الفارق فقط أما مدرك الحجيّة فذلك شيء آخر ولكن نقول بشكل سريع:- وقع الكلام في أن روايات الاستصحاب هل يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات حجيّة كلا الاستصحابين - العادي والقهقرى أو لا ؟ فإن قلنا نعم يمكن ذلك كان إطلاق الأخبار قد كفانا المؤونة ، وأما إذا رفضنا ذلك فيوجد طريق آخر وهو التمسك بالسيرة العقلائية فإنها قد جرت على ذلك ونحن قد جرت سيرتنا على ذلك من حيث لا نشعر فنشتري نهج البلاغة مثلاً ونستفيد منه ونشتري تاريخ ابن الأثير ... وهكذا فإذا لم يكن استصحاب القهقرى حجّة فكيف نثبت أن المقصود من هذه الألفاظ المذكورة في هذه الكتب هو هذه المعاني المتداولة لدينا اليوم ؟! فإنا في مقام تشخيص تلك المعاني نلاحظ ما هو المتبادر بيننا اليوم فإذا كان هناك شيءٌ معيّن يتبادر إلى الذهن حملنا تلك الألفاظ السابقة التي جاءت قبل ألف سنةٍ أو أكثر على هذه المعاني المتداولة بيننا ، إن طريقتنا قد جرت على ذلك وهذه سيرة عقلائية لم يرد الردع عنها بل لو ورد الردع عنها للزم تعذّر الاستنباط وسدّ بابه - وإن لم يكن سدّاً بالكامل - لأنه حينئذ لا يمكن أن نستفيد من الروايات فلولا هذا الطريق لا يمكن الاستفادة من الروايات ، إذن استصحاب القهقرى حجّة لأجل السيرة المذكورة التي لم يرد عنها ردع ، وواضح أن حجيته تختص بهذا المورد ولا يمكن أن ندّعي أن كل استصحاب قهقرى هو حجّة كلا بل هو حجّة في هذا المورد لأجل أن السيرة قد انعقدت في هذا المورد وأما في بقيّة الموارد بعد فرض عدم وجود إطلاقٍ للأخبار فلا يوجد مدرك للحجيّة لو تصورنا مورداً وثالثاً لاستصحاب القهقرى.
ولكن القضية الظريفة التي نريد الإشارة إليها هنا هي أن استصحاب القهقرى يمكن إرجاعه إلى الاستصحاب العادي وذلك بالبيان التالي:- إنه حينما ترد لفظة معيّنة في النصّ فسابقاً كنا نقول:- ( حيث إن هذه اللفظة ظاهرة في زماننا في هذا المعني كالطلب الوجوبي مثلاً فبضم استصحاب القهقرى نثبت أنه في عهد صدور النصّ كانت ظاهرة بهذا المعنى أيضاً ) والآن نريد أن نستغني عن هذه الطريقة وذلك بأن نقول:- إن هذه اللفظة التي وردت في النصّ كانت جزماً في عهد صدور النص ذات معنىً معين غايته نحن نجهل ذلك المعنى ولكنها حتماً كانت موضوعة ودالّة على معنىً معين ، ثم نقول:- وإذا شككنا في أن ذلك المعنى المعيّن هل تغير وتبدل إلى معنىً آخر أو لا ؟ فنستصحب ذلك المعنى المعيّن على حاله إلى الآن وهذا كما ترى أنه استصحاب عادي وليس باستصحاب قهقرى وبذلك يثبت أن ذلك المعنى الذي كان ثابتاً سابقاً هو ثابت الآن ، ثم نقول:- إن ذلك المعنى حيث إنه مجمل ولا نعرفه فيمكن أن نشخّصه من خلال ما هو الثابت في زماننا فإذا افترضنا أن الثابت في زماننا هو الطلب الوجوبي مثلاً فيثبت أن ذلك المعنى في عهد صدور النصّ هو الطلب الوجوبي وبهذا ارتفع ذلك الإجمال وتشخّص ذلك المعنى المجمل بهذا المعنى المتبادر والمتداول في زماننا.
إن قلت:- إن هذا أصل مثبت إذ بالاستصحاب العادي ثبت أن ذلك المعنى المجمل مستمر إلى زماننا وإذا كان مستمراً إلى زماننا ببركة الاستصحاب فاللازم العقلي لذلك أن يكون ذلك المعنى المجمل هو هذا المعنى الثابت في زماننا وهذه ملازمة غير شرعية إذ لا توجد آية ولا رواية تقول ( إذا كان ذلك المعنى السابق مستمراً إلى هذا الزمان إذن ذلك المعنى السابق يتحتّم أن يكون هو هذا المعنى المتداول في زماننا ) إن هذه الملازمة غير شرعية فيكون الأصل المذكور مثبتاً وهو ليس بحجّة.
قلت:- إن هذا وجيه لو كان الأصل المذكور - أعني استصحاب ذلك المعنى السابق - قد استفدنا حجيّته من الأخبار فيأتي هذا الكلام وأن الأخبار تُعبِّدُنا بنفس المستصحب وفي دائرته فقط وأما لوازمه غير الشرعية فلا تعبّدنا بها ، بيد أنه يمكن أن نقول:- إن هذا الاستصحاب هو مما انعقدت عليه السيرة العقلائية فالعقلاء يبنون على أن كل معنىً كان ثابتاً في ذلك الزمن فهو مستمرّ إلى هذا الزمن إلّا أن يثبت التغيُّر والنقل فما لم يثبت التغيُّر والنقل فالسيرة منعقدة على الحكم ببقاء ذلك المعنى ، أما لماذا انعقدت السيرة على ذلك ؟ لعل المنشأ هو أن ظاهرة التغيُّر في اللغة قليلة وضعيفة أو غير ذلك وهذا شيء لا يهمنا وإنما المهم هو أن السيرة منعقدة على الحكم بالبقاء فيجعلون ثبوت المعنى السابق في ذلك الزمن أمارة على استمراره ، ومادام قد رجع الأصل المذكور إلى السيرة - يعني رجع إلى كونه أمارة وليس إلى كونه أصلاً تعبدياً بحتاً فنقول:- إن لوازم الأمارة غير الشرعية حيث أنها حجّة واللوازم التي ليست بحجّة هي لوازم الأصل التعبّدي البحت فعلى هذا الأساس سوف يثبت أن ذلك المعنى هو نفس هذا المعنى المتاول في يومنا هذا بلا حاجة إلى الاستعانة بفكرة استصحاب القهقرى ولكنّا بحاجة إلى أن نرجع هذا الاستصحاب العادي المتعارف وهو استصحاب بقاء ذلك المعنى إلى حيثية كونه أمارة فندّعي انعقاد سيرة عقلائية على ذلك غايته نحن لضيق التعبير نعبِّر بأنه أصل وإلّا ففي الواقع هو أمارة والعقلاء قد جرت سيرتهم على ذلك ، وبناءً على هذا تتم هذه الطريقة ونصل إلى المطلوب بلا استعانة باستصحاب القهقرى.
وهناك مصطلح آخر وهو مصطلح ( الاستصحاب استقبالي ) ويقصد منه أن تكون الحالة المتيقنة ثابتة الآن كما كنا نفترض ذلك في استصحاب القهقرى غايته في استصحاب القهقرى كنّا نفترض فيه أن حالة الشك هي فيما مضى وأما هنا فنفترض أن حالة الشك هي فيما يأتي - أي في الاستقبال - وبهذا الاعتبار سمِّي بالاستصحاب الاستقبالي . إذن صار الفارق واضح بين هذه المصطلحات الثلاثة.
ومختصراً أيضاً نقول:- إن هذا الاستصحاب إذا قلنا بأنه مشمول لإطلاق الأخبار فالأمر سهلٌ ويتم المطلوب - يعني ندّعي أن حديث ( لا تنقض اليقين بالشك ) له من السعة ما يشمل به الأنواع الثلاثة للاستصحاب ، وأما إذا أنكرنا ذلك فهناك طريقة لإثبات الحجيّة ولكنها في بعض الموارد وليس في جميعها وهو التمسك بالسيرة العقلائية فندّعي أن العقلاء قد جرت سيرتهم على الاستصحاب الاستقبالي في موارد منها ما إذا كان الإنسان له صحّة الآن وهو على قيد الحياة وشكّ في أنه هل هو باقٍ إلى سنةٍ أو أكثر مثلاً فإنه يبني على البقاء ، هذه هي السيرة على ذلك ولذلك نعمِّر بيوتنا ونتزوج .... وغير ذلك ولولا هذا الاستصحاب الاستقبالي لم نفعل ذلك ، وعلى هذا الأساس فلازمه أنه إذا كنّا نعتني لهذا الاحتمال فلا نتزوج ولا نبني داراً ولا غير ذلك بل ولا نصلّي أيضاً لاحتمال أنّا سنموت في الركعة الرابعة مثلاً وإذا تحقق الموت في الركعة الرابعة فالوجوب يكون منتفياً من البداية فحينئذ لا أصلّي إذ يحصل لي شكٌ في التكليف فأجري البراءة ... وهكذا في الصوم وغيره ، فالحياة إذن تختلُّ وقوامها بهذا الاستصحاب الاستقبالي.
[1]
يعني في زماننا.