الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/04/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / الاستصحـاب / الأصول العملية.
 الاستصحاب
 وقبل الدخول في صميم البحث نذكر خمس قضايا جانبية:-
 القضية الأولى:- الاستصحاب ين المدرستين.
 القضة الثانية:- تعريف الاستصحاب.
 القضية الثالثة:- الفارق بين الاستصحاب غيره.
 القضية الرابعة:- هل الاستصحاب أصل أو أمارة ؟
 القضية الخامسة:- في مقام النسبة بين الاستصحاب ومعارضه هل يلحظ نفس الاستصحاب أو مدرك حجيته ؟
 الاستصحاب ين المدرستين:-
 فكرة الاستصحاب كما هي ثابتة لدى مدرسة اتباع أهل البيت عليهم السلام كذلك هي ثابتة في المدرسة الثانية ، وكما أن الاستصحاب مورد خلاف في مدرسة أهل البيت عليهم السلام كذلك في المدرسة الثانية ، فمثلاً ينقل صاحب المعالم في أواخر الكتاب عندما يتعرض إلى الاستصحاب أن السيد المرتضى(قده) أنكر حجيّة الاستصحاب رأساً خلافاً للشيخ المفيد(قده) وجماعة فإنهم ذهبوا إلى الحجيّة ونقل لهم أدلة أربعة وقال:- ( اختلف الناس في استصحاب الحال [1] ..... فالمرتضى وجماعة من العامّة على الثاني ويحكى عن المفيد المصير إلى الأول وهو اختيار الأكثر ) [2] ثم نقل الوجوه الأربعة على الحجيّة.
 ونقل الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل [3] أحد عشر قولاً في حجيّة الاستصحاب منها قول بالحجيّة مطلقاً وقول بعدم الحجيّة مطلقاً والباقي تفصيلٌ واختار هو القول التاسع الذي هو تفصيل المحقق في المعارج - يعني التفصيل بين أن يكون الشك في البقاء ناتجاً من الشك في المقتضي فليس بحجّة وبين أن يكون الشك في الرافع فيكون حجّة - وبنى عليه.
 وأما في المدرسة المقابلة:- فقد ذكر في سلّم الوصول إلى علم الأصول ما نصّه:- ( ذكر أكثر العلماء كما حكاه ابن الحاجب ومنهم المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية إلى أن الاستصحاب حجّة شرعية فيحكم ببقاء الحكم الذي كان ثابتاً في الماضي مادام لم يقم دليل برفعه أو بتغييره فيبقى الأمر الثابت في الماضي ثابتاً في الحال بطريق الاستصحاب ) [4] . إذن المعروف بينهم هو الحجيّة ولكن يوجد من ينكر ذلك كما هو عندنا.
 وقد جاء في بعض التعابير الواردة في القوانين الوضعية الإشارة إلى الاستصحاب ولكن لا بلسان الاستصحاب بل بلسان آخر من قبيل ( الأصل بقاء ما كان على ما كان ) أو ( القديم يترك على قِدَمِه ) أو ( الأصل في الصفات العارضة العدم ) أو ( ما ثبت في زمانٍ يحكم ببقائه ما لم يوجد دليلٌ على خلافه ) [5] .
 والخلاصة:- إن فكرة الاستصحاب ثابتة في الجملة في كلتا المدرستين ، ولم يستدل الأصوليون المتقدمون من مدرسة أهل البيت بالروايات على حجيّة الاستصحاب وإنما استدل من قال بالحجيّة بأدلة ووجوه أخرى من هنا وهناك من قبيل ما استدل به المحقق في المعارج على ما نقل الشيخ الأعظم في الرسائل حيث قال:- ( إن المقتضي للحكم الأول ثابت والعارض لا يصلح رافعاً له ) [6] فإنهم تمسكوا بهذا الدليل وما شابهه ولم يتمسكوا بالأخبار وإنما حدث التمسك بالأخبار - على ما قيل - في زمان والد الشيخ البهائي(قده) حيث التفت علماؤنا إلى امكانية التمسك بالأخبار وانتقلت المعركة إلى الأخبار وأنه ماذا يستفاد منها فهل يستفاد الحجيّة مطلقاً أو على تفصيلٍ كما سوف نوضح ، نعم تمسكوا بالسيرة العقلائية أيضاً إضافةً إلى الأخبار ، بل وتمسّك بعضٌ بحكم العقل ولكنهم لم يتمسكوا بتلك الأدلة القديمة من قبيل ما قرأناه عن المحقق في المعارج ، فهم تمسكوا بأدلة أخرى أهمها الأخبار .
 وأما المدرسة المقابلة فحيث لم تسير وراء أهل البيت عليهم السلام فلم يتمسكوا بالأخبار وإنما تمسكوا بتلك الوجوه الاعتبارية الأخرى.
 تعريف استصحاب:-
 ذكر الشيخ(قده) في الرسائل ما نصّه:- ( عُرِّف بتعاريف أسدُّها وأخصرها إبقاءُ ما كان . المراد بالإبقاء الحكم بالبقاء ) [7] ، وهذا الذيل - أي المراد بالإبقاء الحكم بالبقاء - قصد به الإشارة إلى أن الإبقاء الوارد في التعريف ليس هو الإبقاء التكويني وإنما المقصود هو الإبقاء الشرعي بمعنى حكم الشارع بالبقاء.
 وذكر صحاب الكفاية نفس ما أفاده الشيخ بإضافة توضيحٍ أكثر حيث قال ما نصّه:- ( وهو الحكم ببقاء حكمٍ أو موضوع ذي حكمٍ شُك في بقائه إما من جهة بناء العقلاء ...... وإما من جهة دلالة النصّ أو دعوى الإجماع عليه ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل أن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه واثباته ........ ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء ..... لما تقابل فيه الأقوال ) [8] ومقصوده هو أن المناسب تعريف الاستصحاب بالحكم بالبقاء لا أن يُعرِّف ببناءِ العقلاء على الحكم بالبقاء ونحو ذلك فإنه لو عُرِّف بذلك لكان ذلك تعريفاً خاصاً بما إذا بنينا على كون المدرك لحجيّته هو بناءُ العقلاء ، وبناءً على هذا لا يمكن أن يقع النزاع بين من يبني على كون مدرك الحجيّة هو بناء العقلاء وبين من ينبني على كون المدرك هو الأخبار فإن الاستصحاب سوف يتعدّد بتعدّد المدارك ولا يكون واحداً والتعدد في مداركه بل يكون هو متعدد ومع تعدّده كيف يمكن أن يقع النزاع بين أصحاب مسلك حكم العقل وأصحاب الأخبار أو بناء العقلاء إذ الاستصحاب يكون عند هذا شيئاً مغايراً للاستصحاب عند ذاك ولا معنى للاختلاف آنذاك ؟! فالصحيح إذن تعريفة بنفس الحكم بالبقاء وليس ببناء العقلاء على الحكم بالبقاء وما شاكل ذلك. هذا ما أفاده(قده).
 وكما ذكرنا أن روح التعريفين المذكورين في الرسائل وفي الكفاية واحدة غايته أن الشيخ الخراساني(قده) فتح المطلب أكثر لا أنه ذكر شيئاً مغايراً من حيث الروح لما ذكره الشيخ الأعظم(قده).
 وأشكل على التعريف المذكور بعدّة إشكالات نذكر منها إشكالين:-
 الإشكال الأول:- ما ذكره السيد الخوئي(قده) [9] من أن العريف المذكور في الرسائل أو في الكفاية - أعني أنه الحكم بالبقاء أو إبقاء ما كان الذي هو الحكم بالبقاء - يلتئم بناءً على كون المدرك هو الأخبار وأما إذا كان المدرك هو بناء العقلاء فيصير الاستصحاب أمارة وليس حكماً شرعياً وحيث أن الأمارة على البقاء هي اليقين السابق فإنه أمارة على البقاء إذ الغالب فيما كان موجودا ًسابقاً هو الدوام والبقاء فالأمارة هو اليقين وبالتالي المناسب تعريف الاستصحاب بنفس اليقين فيقال ( الاستصحاب هو اليقين السابق والشك اللاحق ) لأن الأمارة هو ذلك - أي اليقين السابق - لا أنه يُعرَّف بـ( الحكم بالبقاء ) ، نعم لو كان المستند هو الأخبار فحيث أن المستفاد منها هو الحكم ببقاء الحالة السابقة فالمناسب حينئذ تعريفة بالحكم بالبقاء أو إبقاء ما كان.
 وبالتالي أراد(قده) أن يقول إن الاستصحاب ليس له معنىً واحد وإنما معناه مختلفٌ باختلاف مداركه فبناءً على كون المدرك هو بناء العقلاء فالاستصحاب هو اليقين والشك وبناءً على كون المدرك هو الأخبار فالاستصحاب يكون هو الحكم بالبقاء.
 وفيه:- إنه يمكن أن نقول:- إن روح الاستصحاب واحدة مهما اختلف المدرك فهو عبارة عن إبقاء الحالة السابقة أو الحكم ببقائها غايته إن هذا الحكم بالبقاء تارةً يكون بسبب بناء العقلاء والإمارية وأخرى بسبب التعبّد الشرعي فتارةً يقال العقلاء يرون بقاء الحالة السابقة عند الشك وأخرى يقال النصّ يدلّ على ذلك.
 وبكلمة أخرى:- هناك روح واحدة مشتركة على كلا المدركين وهي الحكم ببقاء ما كان فإن الذي يستند إلى بناء العقلاء يسلّم بهذه الروح غايته أن مستنده فيها هو بناء العقلاء وهكذا من يستند إلى النصّ فإنه يقبل بهذه الروح أيضاً فهذه الروح روح واحدة عند الجميع لا أنها موجودة عند من يستند إلى الأخبار وليست موجودة عند من يستند إلى بناء العقلاء ، وهذا مطلب ينبغي أن يكون واضحاً وقد أشار إليه صاحب الكفاية(قده) في العبارة السابقة فإنه ذكر أن الاستصحاب واحد وهو الحكم بالبقاء غايته أن المستند هو إما بناء العقلاء أو النصّ أو غير ذلك ، إذن هناك روح واحدة لا تختلف باختلاف المدارك .
 هذا مضافاً إلى أنه(قده) قال:- ( إنه بناءً على كون المدرك هو بناء العقلاء يكون الاستصحاب أمارة ) وهذا مقبول منه ثم قال ( والأمارة هي اليقين السابق ) ولعل المناسب أن يقال:- إن الأمارة هي الحالة السابقة الثابتة دون اليقين بها فإن الإمارية ناشئة من غلبة استمرار ما يحدث فنفس الحدوث السابق للحالة السابقة أمارة على الاستمرار لا أن اليقين هو الأمارة على الاستمرار فإنه ليس الغالب في اليقين أن يكون مستمراً وكاشفاً عن الاستمرار بل الحدوث السابق يلازم غالباً الاستمرار فلو كان عندي صديق في الزمن السابق وشككت الآن في وجوده فوجوده السابق يلازم الاستمرار لا اليقين وإنما اليقين نستعين به من باب أنه مرآة إلى الحدوث فالمدار على الحدوث وليس على اليقين ، وهذه قضية جانبية والمهم هو ما ذكرناه أوَّلاً وهو أن روح الاستصحاب واحدة على جميع المدارك ولا تختلف باختلافها.


[1] أي الحال السابق.
[2] المعالم ص377 تحقيق البقاّل.
[3] تراث الشيخ الأنصاري تسلسل الكتاب 26 ص 83 190.
[4] سلم الوصول إلى علم الاصول ص 305.
[5] فلاحظ مجلة الأحكام العدلية العدد 5 ، 6 ، 9 ، 10 والتي للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء تعليق عليها أنه بيّن رأي المذهب الجعفري في هذا المجال أي مقارنة بين القوانين الوضعية وبين الفقه الجعفري وسمّاه بـ( تحرير المجلة ).
[6] تراث الشيخ الأنصاري تسلسل 26 ص83.
[7] تراث الشيخ الأنصاري تسلسل 26 ص9.
[8] كفاية الاصول ص 384 طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
[9] مصباح الأصول ج2 ص5.