الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/04/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه التاسع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 موقف الشخص الثالث:- تارةً يفترض أن الضرر اللاحق بالشخصين ضرر مالي وأخرى ليس بمالي ، ومثال الأول ما إذا فرض وجود جهاز كهربائي لشخصٍ تحت السماء كما يوجد جهاز آخر لشخص آخر تحت السماء أيضاً ونزل المطر فإنه سوف يتضرر هذا الجهاز كما يتضرر ذاك الجهاز وأنا لا أقدر على دفع الضرر بلحاظ كليهما ، ومثال الثاني ما إذا دار الأمر بين حياة الحامل وبين حياة الجنين فما هو موقف الطبيب.
 أما بالنسبة إلى الأول:- فمن الواضح أن أصل التحفظ على أموال الآخرين ليس بلازم فإن الثابت وجوبه هو التحفظ على دماءهم دون أموالهم نعم يرجح ذلك من باب القضية الأخلاقية والأدبية والاسلامية وهذه قضية أخرى أما بنحو الإلزام فلا لعدم الدليل على ذلك فنجري بالبراءة ، بل إذا لم نحرز رضا المالك بهذا التصرف فيكون سحبه من تحت السماء إلى تحت السقف محلاً للإشكال لأنه لا يحرز رضا صاحبه . إذن نحن نفترض الآن أنا أحرزنا رضا الطرفين فحينئذٍ لو سحبت أحدهما وبقي الآخر فحصل له ضررٌ فلا معنى لأن أضمن أنا الضرر أو يتوزع الضرر على كليهما إن هذا لا معنى له من الأساس إذ الضرر لم يحصل بسببي أو بسبب الآخر وإنما بسبب نزول المطر . إذن هذه الحالة لابد من إخراجها عن محل البحث.
 وأما بالنسبة إلى الثاني:- فقد يقال إن المورد مورد التزاحم إذ يجب التحفظ على حياة الأم كما يجب التحفظ على حياة الجنين وحيث لا يمكن امتثال كلا الوجوبين لضيق القدرة فيحصل التزاحم ويقدّم آنذاك الأهم أو محتمل الأهمية وحيث أن الأم محتملة الأهمية فعلى الطبيب أن ينقذها دون الجنين ، هكذا قد يخطر إلى الذهن بادئ ذي بدء ، بيد أن السيد اليزدي(قده) قال:- ( ولو خيف على حياتهما [1] على كلٍّ منهما انتظر حتى يقضي الله عز وجل ) [2] - أي إما بموت الجنين أو بالعكس - فهو قد فرض أن الأمر دار بين حياة الأم وحياة الجنين فحياتهما معاً شيء غير محتمل وحياة أحدهما موقوفة على موت الآخر فهنا قال(قده) إن الطبيب لا ينبغي له أن يتدخل بل يبقى إلى أن يقضي الله عز وجل ، هكذا ذكر(قده) ووافقه المحشّون على ذلك.
 ولكن - كما قلت - قد يخطر إلى الذهن أن المورد مورد التزاحم بين حياة الأم وحياة الجنين فيقدّم محتمل الأهمية وهو الأم ، ولكن في هذا المجال نقول توجد حالات ثلاث:-
 الحالة الأولى:- أن نفترض أن كلّاً من الأم والولد موجود في الماء ودار الأمر بين أن أقوم بإنقاذ الأم أو إنقاذ الولد وليس بإمكاني إنقاذهما معاً فهنا تأتي فكرة التزاحم فيقال يجب عليَّ انقاذ الأم والتحفظ على حياتها كما يجب عليًّ التحفظ على حياة الولد وحيث لا يمكن ذلك فأكون بالخيار مع فرض التساوي وأما مع احتمال الأهمية فيجب اختيار الأهم فلو فرضنا أن التحفظ على حياة الأم هو الأهم أو محتمل الأهمية فيأتي هذا الكلام هنا ويكون وجيهاً ويتعيّن انقاذ الأم ويكون تطبيق فكرة التزاحم شيءٌ مقبول.
 الحالة الثانية:- يفترض أن الدوران يكون بين موتهما معاً وبين موت واحدٍ منهما ، ففي هذه الحالة يأتي ما ذكر سابقاً أيضاً - يعني التقديم باحتمال الأهمية - فيقال إنه لابد من إنقاذ أحدهما على الأقل وحيث أن الأم هي الأهم أو محتملة الأهمية فتنقذ ، إنه شيء وجيه ، والكلام ليس في هاتين الحالتين وإنما هو في الحالة الثالثة والتي هي محل كلام السيد اليزدي(قده) وكلامنا.
 الحالة الثالثة:- ما لو فرض أن أحدهما سوف يموت حتماً ، فإذا أردنا التحفظ على حياة الأم فلابد من قتل الجنين وإذا أردنا العكس فبالعكس ، وفي هذه الحالة يدور الأمر بين قتلين وليس بين انقاذين وإنما نعجّل بالقتل على أحدهما في سبيل الحفاظ على استمرار حياة الآخر وحينئذٍ يقال لا معنى للتعجيل بقتل أحدهما فإن التعجيل بالقتل أمر محرَّمٌ فهذا روحٌ وذاك روحٌ أيضاً والمفروض أنه لو لم يتدخل الطبيب فسوف يموت أحدهما لا أن يموت كليهما ، فإذن كيف يتدخل الطبيب في موت الجنين ؟! إنه شيء لا يجوز لأنه قتل للنفس ولو بنحو التسريع وذلك كالتسريع في قتل الأم فكما إنه لا يجوز فهذا لا يجوز فلا بد إذن من انتظار أمر لله عز وجل وفي مثل ذلك يلزم أن لا يتدخل الطبيب للنكتة التي أشرنا إليها . نعم لو فرض أن الأم كانت بدرجةٍ من الأهميّة بحيث كان للتحفظ على حياتها ملاكٌ مهمّ جداٌ يزيل الملاك في الطرف الثاني والحرمة في التسريع في قتله فنقدّم حينئذ التحفظ على حياة الأم ونسرِّع في قتل الولد ولكن هذا مجرد افتراض ولو فرض العكس فبالعكس أما في الحالات العاديّة فكلاهما نفسٌ وقتل نفسٍ في سبيل التحفّظ على نفسٍ أخرى أمر لا وجه له ، نعم الترجيح بالإنقاذ شيءٌ وجيه - كأن انقذ هذا من البحر حيث لا يمكن انقاذ الثاني - أما أن أقتل الثاني في سبيل التحفظ على الأول أو بالعكس فهو شيء لا وجه له فلذلك أفتى(قده) بأنه لابد من الانتظار حتى يقضي الله عز وجل وهو شيء وجيه.
 نعم هناك حالة أخرى وهي ما لو دار الأمر في حق الحامل نفسها بمعزلٍ عن قضية الطبيب بحيث قيل لها إذا أردت البقاء فلابد وأن تقتلي جنينك أو إذا أريد العكس فبالعكس فالكلام يدور بالنسبة إلى نفس الأم بمعزل عن قضية الطبيب ، وفي مثل هذه الحالة يمكن أن يقال:- يجوز للأم أن تصنع شيئاً تقتل بسببه الجنين والوجه فيه أنه يلزمها أن تحافظ على نفسها كما يلزمها أن تحافظ على الجنين وحيث أن لزوم المحافظة على الجنين يلزم منه توجّه الضرر إليها - وهو ضرر الموت - وفي ذلك عسر وحرج عليها فيمكن أن نتمسك بقاعدة لا ضرر أو نفي الحرج لنفي وجوب تحفّظها على حياة الجنين فيجوز لها حينئذٍ أن لا تحافظ على حياته بل تحافظ على نفسها . إذن ينبغي التفرقة بين هذه الشقوق التي أشرنا إليها.


[1] أي حياة الأم وحياة الجنين.
[2] العروة الوثقى - فصل الدفن - مسألة15