الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/04/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه التاسع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 الشق الثالث:- ما إذا طلب كلاهما التخليص ، وهنا إذا فرض أنهما اتفقا على كيفية التخليص وأنه يكون بقتل الحيوان مثلاً فلا مشكلة ، وهكذا إذا اتفقا على مقدار الغرامة أو عدمها فلا مشكلة فإن الحق - كما قلنا - لا يعدوهما ، وإنما الكلام فيما إذا لم يتفقا فهنا لابد من رفع الأمر إلى الحاكم وهو يلاحظ أنه إذا كان الضرر المترتب على تعيّب أحدهما أقل فيكون هو المتعيّن وإذا فرض أنه كان هناك تساوٍ في درجة التضرر فلابد من اللجوء إلى القرعة فإنها لكل أمرٍ مشكل وهذا مطلب واضح ، وإنما الكلام في الضمان يعني إذا فرض أن القرعة خرجت باسم صاحب الحيوان وأنه لابد من تعيّبه بقتلٍ أو أقلّ من القتل فهل حينئذ يضمن له الثاني أي صاحب القفص الذي سلم ماله - كامل الخسارة أو توزّع الخسارة عليهما أم ماذا ؟ فالسؤال والبحث هو عن الضمان ؟
 والجواب:- إن في ذلك احتمالات أربعة:-
 الاحتمال الأول:- أن تكون الخسارة بالكامل على الطرف الثاني الذي سلم ماله ، وربما ينسب إلى المشهور ذلك فإن الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل حينما تعرض إلى هذه المسألة - ولكن لم يعنونها بعنوان الطائر مع القفص بل عنونها بعنوان القدر والدابة يعني لو أدخلت الدابة رأسها في القدر ذكر أن الفقهاء قالوا بأن القدر يكسر والضمان يكون على صاحب الدابّة وهو قال في هذا المجال إنه لابد وأن ينزل حكم المشهور هذا على الحالة المتعارفة وهي كون القدر أقل قيمةً من الدابة ، وشاهدنا نحن هو أنه قال:- ( على ذلك ينزل ما ذهب إليه المشهور ) فنسب هذا إلى المشهور فالقدر يكسر والضمان يكون على صاحب الدابة بالكامل ، ثم ذكر تعليلاً في ثنايا كلامه بكون الضمان يكون على صاحب الدابة بالكامل وذلك بأن كسر القدر كان لمصلحته ، قال(قده):- (( ..... ويمكن أن ينّزل عليه ما عن المشهور من أنه لو أدخلت الدابّة رأسها في القدر بغير تفريطٍ من أحد المالكين كسر القدر وضمن قيمته صاحب الدابة معللاً بأن الكسر لمصلحته فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب [1] من أن ما يدخل على مالك الدابة إذا حكم عليه بتلف الدابة وأخذ قيمتها أكثر مما يدلّ على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته )) [2] ، وبالجملة نسب الشيخ إلى المشهور أن من سلم ماله يكون هو الضامن بعلة أن ذلك لمصلحته.
 وذكر الشيخ النائيني(قده) [3] كلاما لعله قريب مما ذكره الشيخ الأعظم(قده) أو توجيه لما ذكره فإنه (قده) ذكر أن العامل لدخول الضرر إذا كان طبيعياً فنسبة ذلك العامل الطبيعي إلى الطرفين حيث أنها نسبة واحدة فلابد من حساب الشخصين حساب الشخص الواحد وكما لو فرض أن العامل الطبيعي صار سبباً لدخول أحد ضررين على شخصٍ واحد بأن مرض لأجل برودة الهواء فلو أصيب بمرضٍ فبالتالي إما أن تقصّ يده أو تقصّ رجله فكما أنه ينتخب الأقل ضرراً كذلك الحال في مقامنا فينبغي أن ينتخب أقل الضررين، هذا ما ذكره الشيخ النائيني(قده) ولكنه لم يشر إلى أنه لماذا يكون الضمان على الشخص الآخر بالكامل ؟ ونحن نقول له:- نحن نسلّم أن نسبة العامل الطبيعي إلى الشخصين واحدة ونسلّم أنه لابد من أن نلاحظ الشخصين كشخصٍ واحد ونسلّم ما قلته من أنه في الشخص الواحد لابد من ملاحظة أقل الضررين ولكن الكلام في أنه لماذا يستقر الضمان على الطرف الآخر بالكامل ؟ فهذا لم توضح نكتته فإن هذا المقدار لا يكفي لإثبات الضمان بالكامل على الطرف الآخر ، قال(قده):- (( لأن الله سبحانه إذا نفى الحكم الضرري منَّة على عباده والمفروض أن نسبة الحكم المنفي بالنسبة إلى كلِّ عبدٍ واحدة فكما لو توجّه أحد الضررين إلى شخصٍ واحدٍ يختار أخفّهما وأقلّهما فكذا لو توجّه إلى أحد الشخصين )) إنه ذهب إلى مطلبٍ ليس بمهمٍ وترك المهم فإنه تحدّث عن لزوم اختيار أقل الضررين وهذا شيء عقلائي مسلّم ولكن المهم هو أنه لماذا يصير الضمان على الطرف الآخر بالكامل فهذا لم يشر إليه ؟ ولعل مقصوده ما أشار إليه الشيخ الأعظم(قده) وهو أن هذا التصرف حيث إنه لمصلحته فعليه الضمان.
 وفيه:- إن إدخال العيب على أحد الشيئين هو ليس لمصلحة ذلك الطرف فقط حتى يقال إن الضمان يكون عليه بالكامل وإنما هو لمصلحتهما معاً إذ هما معاً - حسب الفرض - يطلبان التخليص فتعيّب أحدهما هو لمصلحتهما فينبغي توزيع الخسارة عليهما لا أنها تثبت بالكامل على ذلك الطرف الذي سلم ماله ، وبهذا يفترق هذا المورد عمّا أشرنا إليه في الشق الثاني - يعني إذا كان الطالب للتخليص هو أحد الطرفين - فإنه هناك يمكن أن نقول إن تعييب أحدهما هو لمصلحة ذاك لأنه هو الذي طلب التخليص فيكون الضمان عليه وأما الذي عيب ماله فهو كان راضياً ببقاء الأمر على حاله ، فإذن التعيّب ليس لمصلحته فلا معنى لتوزيع الضرر عليهما بل يختص الضمان بذلك الطرف الذي سلم ماله والذي طلب التخليص وهذا بخلافه في المقام فإن الطالب للتخليص هو كلا الطرفين فالتعيّب إذن يكون لمصلحتهما معاً وليس لمصلحة أحدهما وعلى هذا الأساس فلماذا يستقر الضمان بالكامل على ذلك الطرف الذي سلم ماله ؟ هذا إشكال يتسجل على رأي المشهور . هذا كله بالنسبة إلى الاحتمال الأول وهو أن يكون الضمان على الطرف الذي سلم ماله لهذه النكتة وقد اتضح أن هذا شيء باطل لأنهما معاً قد طلباً التخليص.
 الاحتمال الثاني:- أن تكون الخسارة ثابتة عليهما معاً بالتساوي من دون ملاحظة درجة التضرر وأنّ تضرر هذا أكثر من ذاك أو أن مال هذا أكثر من مال ذاك بل نقول ما داما معاً قد طلبا التخليص فالخسارة تكون عليهما لأن التخليص لمصلحتهما معاً والمدرك هو قاعدة العدل والإنصاف المؤيَّدة بما رواه السكوني في قصة دينار الودعي التي نصّها:- ( رجل استودع رجلاً دينارين فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينارٌ ، قال:- يعطى صاحب الدينارين ديناراً ويقسم الباقي بينهما ) [4] ، إذن بمقتضى قاعدة العدل والإنصاف لابد من توزيع الخسارة عليهما معاً ، ومضافاً إلى ذلك ما رواه السكوني فإنه يدعم ما ذكرناه فإن الامام عليه السلام قسّم الضرر عليهما بالتساوي فمقامنا يكون الأمر فيه كذلك.


[1] يعني أن الشيخ يريد أن يقول هم اطلقوا ولم يفصلوا من أن القدر قيمته أقل فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب.
[2] تراث الشيخ الأنصاري تسلسل 25 ص 471.
[3] في رسالته لا ضرر ص 424.
[4] الوسائل ج 18 ص452 ب12 من أبواب الصلح ح1.