الموضوع / التنبيه الثامن / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
ما يستدل به على عدم الجواز:-
ذكرنا سابقاً أنه قد يستدل لجواز حفر المالك بالوعةً في داره رغم تضرر الجار بوجوه أربعة وإذا أضفنا إليها السيرة تصير خمسة ، والآن نريد أن نتكلم عمّا قد يستدل به على عدم الجواز فإنه قد يستدل له بالبيان التالي:-
نسلم أن حديث لا ضرر بفقرته الأولى - أي لا ضرر - متعارض في حق الطرفين - المالك والجار - ولكن تبقى فقرة لا ضرار في صالح الجار وحده ، فيمكن أن نستدل على عدم جواز حفر المالك للبالوعة في داره بفقرة لا ضرار باعتبار أن الحفر يوجب إدخال الضرر من مالك الدار على الجار وبذلك يثبت عدم الجواز.
ولو تنزلنا وقلنا إن الفقرة المذكورة لا يمكن التمسك بها ولو لإجمالها أو لتعارضها مع فقرة لا ضرر أو لشيء آخر فلا يوجد مرجع نرجع إليه ليثبت الجواز فإن المرجع هو قاعدة السلطنة - أي سلطنة المالك على التصرف في ملكه بما أحب - ولكن غاية ما تفيده القاعدة المذكورة هو رفع الحجر عن المالك في خصوص التصرف المشروع فالتصرف الثابت شرعيته لا حجر على المالك فيه من أحدٍ ولا يحتاج إلى الاستئذان من أحدٍ كتصرف الوالد في هبة داره إلى ولده الصغير في حياته فإنه لا حاجة إلى الاستئذان من بقيّة الأولاد فهنا يأتي حديث السلطنة ويقول مادام هذا تصرفاً مشروعاً في حدِّ نفسه فلا يكون محجوراً عليه ولا يكون بحاجة إلى استئذان من بقية الأولاد ، وهكذا الزوجة إذا كانت تملك شيئاً فلها الحق في أن تهبه لأختها أو والدها أو إلى الغير بلا حاجة إلى استئذان من الزوج . إذن حديث السلطنة ناظر إلى ما ثبتت شرعيته والمفروض في المقام أنا نشك في أصل شرعية وجواز حفر المالك للبالوعة بعدما فرض أن ذلك يضر بالجار فأصل الشرعية نشك فيه فلا يمكن إثبات الجواز بحديث السلطنة . إذن حتى لو قلنا بقصور لا ضرار عن شمول المورد لا ينفعنا ذلك بعد أن فرض أنه لا يوجد لدينا مرجع يثبت جواز التصرف إذ المرجع هو حديث السلطنة وقد قلنا بقصوره عن شمول المقام.
ثم يقال:- ولو تنزلنا وقلنا إن حديث السلطنة يشتمل على الاطلاق فهذا الاطلاق يكون محكوماً بفقرة لا ضرار ففقرة لا ضرار تقول لا يجوز لك أيها المالك إعمال هذه السلطنة المطلقة لأنها توجب الإضرار بالجار ، على أنه يمكن أن يقال إنه يوجد دليل على عدم الجواز بقطع النظر عن فقرة لا ضرار وهو ما دلَّ على حرمة التصرف في مال الغير من دون رضاه فإن المالك حينما يحفر البالوعة فذلك سوف يسبب سريان الرطوبة إلى جدار الجار ونفس حدوث هذه الرطوبة والضعف في الجدار هو نحو من التصرف في ملك الغير فلا يجوز إلّا بإذنه وهذا تصرف حقيقي ، وربما يكون التصرف حكميٌّ وليس حقيقياً وهو لا يجوز أيضاً كأن يجعل الشخص داره مكاناً للحدادة أو الدباغة الأمر الذي يوجب إزعاج الجار بشكل تصبح فيه المنطقة ليست صالحة للسكنى إن هذا لا يجوز لأنه نوعٌ من التصرف غايته هو تصرف حكمي وليس حقيقياً.
وإذا شكك وقيل إن عنوان التصرف يشك في صدقه في المقام ومع الشك في صدقة لا يصح التمسك بحديث ( لا يجوز التصرف في مال الغير إلا برضاه ) - لو فرض وجود دليل يشتمل على كلمة ( تصرف ) - لأنه يشكل في صدق عنوان التصرف عليه - ونحن لا نقول بالشك ولكن لو تنزلنا وقلنا به - فبإمكاننا أن نتمسك بأدلة لا تشتمل على عنوان التصرف من قبيل ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه ) أو ما دل على أن حرمة مال المؤمن كحرمة دمه فهذه الألسنة لم يرد فيها كلمة ( التصرف ) حتى يقال نحن نشك في صدق التصرف في المقام . إذن لا يجوز التصرف وحفر البالوعة على جميع التقادير مادام يتضرر الجار بذلك إما لصدق أن ذلك تصرف - بل حتى إذا لم يصدق - أو لأجل فقرة لا ضرار ، هذا حاصل ما قد يذكر في المقام . ويمكن أن نمنهج ما ذكر بالنقاط الخمس التالية:-
الأولى:- إن المالك لا يجوز له حفر البالوعة تمسكاً بفقرة لا ضرار وإن لم يمكن التمسك بفقرة لا ضرر.
الثانية:- مع التنزل عن فقرة لا ضرار - إما لمعارضتها بفقرة لا ضرر أو غير ذلك نقول:- لا يوجد شيء نرجع إليه ليثبت الجواز سوى قاعدة السلطنة وحديث السلطنة ناظر إلى إثبات رفع المحجوريَّة عن التصرف الثابت شرعيته في المرحلة السابقة.
الثالثة:- لو سلمنا أن حديث السلطنة مطلق من هذه الناحية فهو محكوم بفقرة لا ضرار فإنها حاكمة على الأدلة والأحكام الأولية والتي منها ( الناس مسلطون على أموالهم ).
الرابعة:- إنه يوجد دليل على عدم الجواز بقطع النظر عن كل هذا وهو ما دلَّ على أنه لا يجوز التصرف في مال الغير إلّا بإذنه ورضاه وهذا تصرفٌ فإن حدوث الرطوبة في جدار الجار تصرف حقيقي ، بل حتى التصرف الحكمي يمكن أن يقال بعدم جوازه مثل أن جعل الدار محلّاً للحدادة فإن هذا تصرفٌ فيشمله ما دلَّ على حرمة التصرف إلا بالرضا والإذن.
الخامسة:- لو تنزلنا وقلنا إن صدق عنوان التصرف شيءٌ مشكوك فيه فبإمكاننا التمسك بالأدلة الأخرى التي لا تشـتمل على عنوان التصرف مثـل ( لا يحـل مـال امرئ إلا بطـيب نفسـه ) أو ( حرمة ماله كحرمة دمه ).
وفيه:-
أما بالنسبة إلى النقطة الأولى:- فقد تقدم أن القدر المتيقن من الضرار هو إدخال الضرر على الغير بقصد إضراره أما إذا لم يقصد إضراره خصوصاً إذا فرض أن الشخص يتضرر لو لم يقم بذلك التصرف كالمالك فإنه يتضرر إذا لم يحفر البالوعة فإن صدق عنوان الضرر شيء مشكوك فلا يمكن التمسك بالفقرة المذكورة.
وأما بالنسبة إلى الفقرة الثانية:- فجوابه:- إنه يوجد لدينا أصل البراءة أو الإباحة ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) فإنه صالح للمرجعية وإن لم يكن هناك حديث السلطنة فلا يتعين المرجع في حديث السلطنة.
وأما بالنسبة إلى النقطة الثالثة:- فقد اتضح التعليق عليه من خلال ما ذكرناه في النقطة الأولى.
وأما ما ذكر في النقطة الرابعة:- فيمكن أن يقال:- نحن نشك في صدق عنوان التصرف في مثل ذلك رغم حدوث رطوبة في جدار الجار إلا أن صدق عنوان التصرف شيء غير واضح نظير من يتصل من خلال هاتفه بالغير فيدق هاتف الغير في أوقات غير مناسبة إن هذا نحو من الإيذاء وهو لا يجوز من باب أنه إيذاء ولكن هل يتمكن ذلك الغير من أن يعترض على الأول ويقول إن هذا تصرف في هاتفي ؟ إنه يشك في صدق عنوان التصرف إذ أن الأول تصرف في هاتفه ولكن نتيجة تصرفه أنه دق هاتف الآخر أما أن هذا تصرف في هاتف الآخر فيشك في صدق التصرف فيه ، وهنا كذلك أيضاً فيقال إن المالك تصرف في دارة ولكن نتيجة هذا التصرف سوف يحدث هذا الضرر أما أنه تصرفٌ في ملك الغير فيشك فيه دون الجزم.
وأما ما ذكر في النقطة الخامسة:- فجوابه:- إن هذا مبني على فكرة ( حذف المتعلق يدل على العموم ) فلو تمت هذه القاعدة فبها ولكن تماميتها محلّ إشكال وذلك باعتبار أنه لابد من وجود متعلق محذوف فإن الكلام لا يتمّ من دونه وذلك المتعلق نريد التمسك بإطلاقه فلابد من تحديده في المرحلة الأولى حتى نتمسك بإطلاقه ولعل المتعلق هنا هو التصرف ولا يصح التمسك بإطلاقه لفرض أنا نشك في صدق عنوان التصرف إلا أن يدَّعى أن نفس حذف المتعلق يفهم منه العرف العموم وأن المقدر هو جميع ما يصلح لا خصوص التصرف بل كل فعل من الأفعال ولو كان أوسع من التصرف أو أن كل الأمور المحتملة مقدَّرة فتثبت حينئذ ، وهذا مطلب لم يثبت أي أن حذف المتعلق يدل على أن المقدر هو جميع الأفعال أو الفعل بأوسع ما يكون - وإنما هو تزريق من علماء المعاني والبيان ، ولو سلمنا لهم ذلك فنقول إن هذا يتم في المورد الذي يمكن فيه تقدير الجميع والمفروض في مقامنا أنه لا يمكن تقدير الجميع إذ هل يحتمل أن نقدِّر في جملة ما نقدر ( النظر إلى مال المسلم ) إن تقدير جميع الأفعال بنحو العموم هنا غير ممكن فلابد من تقدير ما هو أضيق من ذلك وحيث أن الأضيق مردّد بين أن يكون هو التصرف أو ما هو أوسع منه فلا يوجد معيِّن لتقدير الأوسع بعد فرض أن العموم بعرضه العريض ليس مراداً ، وهذا من النكات المهمَّة التي يجدر الالتفات إليها.