الموضوع / التنبيه الثامن / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وربما يجاب عن ذلك بأحد الجوابين التاليين:-
الجواب الأول:- إنه كما يمكن التمسك بالفقرة الثانية - أعني فقرة لا ضرار - لإثبات حرمة حفر المالك للبالوعة لأن ذلك يستوجب الضرار بالجار فنفس الشيء يمكن أن نسحبه بشكل عكسي فيقال إن الحرمة إذا ثبتت في حق المالك للدار ولم نجوّز له الحفر لأن ذلك ضراراً بالجار فحينئذ سوف يلزم الضرار من ناحية ثانية - أي يلزم الضرار في حق المالك - فيكون ذلك منفياً أيضاً بفقرة لا ضرار . إذن فقرة لا ضرار هي كما تصلح لإثبات الحرمة على المالك كي لا يحصل الضرار في حق الجار تصلح أيضاً لإثبات عدم الحرمة ونفيها كي لا يلزم الضرار على المالك فالتعارض الداخلي الموجب للإجمال الذي كان ثابتاً في فقرة لا ضرر يأتي في فقرة لا ضرار أيضاً.
والجواب واضح حيث يقال:- إن المالك إذا أراد أن يحفر البالوعة ورخِّص في ذلك فسوف يتوجه الضرر منه إلى غيره وهذا ضرارٌ وهو منفيّ ، وهذا بخلاف ما إذا لم نجوِّز للمالك حفر البالوعة فإنه سوف يتضرر لا أنه سوف يحصل ضرار بل سوف يحصل ضرر من جهة الحكم الشرعي لا أنه يحصل ضرار من أحدٍ في حق غيره فيجدر الالتفات إلى هذا الفارق . إذن لو ثبتت الرخصة للمالك في الحفر سوف يصدق عنوان الضرار فالمالك قد أضرَّ بالجار فتأتي فقرة لا ضرار وترفع هذا الضرار ، وهذا بخلاف ما إذا ثبتت الحرمة فإنه لا يلزم الضرار من شخصٍ في حق آخر بل سوف يلزم الضرر على المالك من جهة الحكم الشرعي حيث أثبت الشرع الحرمة فالمورد مورد الضرر لا مورد الضرار . إذن هذا الجواب مدفوع بما أشرنا إليه.
الجواب الثاني أن يقال:- صحيح أنه لا يلزم التعارض الداخلي بالنسبة إلى فقرة لا ضرار ولكن نقول:- إذا ثبتت الحرمة كي لا يصدق الضرار فحينئذ سوف يلزم الضرر على المالك وإذا لزم الضرر عليه فنتمسك آنذاك لرفع هذه الحرمة لا بفقرة لا ضرار بل بفقرة لا ضرر فإن هذه الحرمة الشرعية سوف تصير ضررية في حق المالك فترتفع بفقرة لا ضرر ، وعليه فلا يمكن التمسك بفقرة لا ضرار لإثبات حرمة حفر البالوعة في حق المالك فكما أنه لا يمكن التمسك بفقرة لا ضرر للتعارض الداخلي فأيضاً لا يمكن التمسك بفقرة لا ضرار ولكن لا من ناحية التعارض الداخلي فيها بل من ناحية أنه لو ثبتت الحرمة بفقرة لا ضرار سوف يلزم الضرر على المالك فترفع هذه الحرمة الموجبة للإضرار بالمالك بفقرة لا ضرر.
وفيه:- إننا قد فرضنا في أصل الوجه المذكور - أعني الوجه الثالث لإثبات الجواز - أن فقرة لا ضرر لا يمكنها أن ترفع الحرمة كما لا يمكنها أن ترفع الرخصة إذ أن كليهما ضرري وما دمنا قد قبلنا ذلك منذ البداية فكيف عدنا الآن إلى فقرة لا ضرر لرفع الحرمة ؟! فإنه يجاب ويقال:- كما أن الحرمة ضررية وترتفع بفقرة لا ضرر كذلك الرخصة ضررية وترتفع بفقرة لا ضرر ، إذن فقرة لا ضرر لا يمكن العود إليها لرفع الحرمة - أي حرمة الحفر - في حق المالك وبالتالي يستحكم هذا الإشكال - يعني أن فقرة لا ضرر بعد تعارضها بلحاظ الحرمة والرخصة يعود المجال مفتوحاً إلى فقرة لا ضرار لإثبات حرمة حفر البالوعة في حق المالك ويكون وجيهاً.
نعم يمكن أن يناقش:- بأن المالك لو حفر البالوعة فنسلم أنه سوف يحصل ضرر للجار ولكن هل هذا مصداق للضرار - بعد فرض أنه لم يقصد الإضرار بغيره وإنما هو يريد أن يدفع الضرر عن نفسه من دون أن يقصد الإضرار بالغير - فهل أن هذا يصدق عليه عنوان الضرار ؟
والجواب:- يمكن التشكيك من هذا الناحية وذلك بأن يقال:- إن القدر المتيقن من مفهوم الضرار هو ما إذا فعل الشخص فعلاً قصد به الإضرار بغيره أما إذا لم يقصد به الإضرار بالغير بل كانت نتيجته ذلك من دون قصدٍ والمفروض أنه يتضرر لو لم يفعل ذلك فإن سعة مفهوم الضرار لمثل ذلك شيء غير معلوم ومع إجمال كلمة الضرار من هذه الناحية لا يصح التمسك آنذاك بالفقرة المذكورة لإثبات الحرمة . إذن الحرمة لا يمكن إثباتها بفقرة لا ضرار من ناحية التشكيك في صدق عنوان الضرار في المقام.
ومن خلال هذا كله اتضح أن الرجوع إلى أصل البراءة بعد تعارض حديث نفي الضرر - أي بفقرة لا ضرر بعد تعارضه الداخلي - لا مانع منه ويكون هذا الوجه تاماً في حدِّ نفسه.
الوجه الرابع:- ما يستفاد من كلمات السيد الخوئي(قده)
[1]
وحاصله:- أنه تقع معارضة بين فقرة لا ضرر وفقرة لا ضرار فمن ناحية فقرة لا ضرر تقول حيث إن المالك يتضرر لو لم يجز الحفر فبناءً على هذا يثبت الجواز وتنتفي الحرمة ولكن بفقرة لا ضرار حيث فرض أن الجار سوف يتضرر فتثبت الحرمة . إذن بفقرة لا ضرر تنتفي الحرمة وبفقرة لا ضرار تنتفي الرخصة وتثبت الحرمة فتحصل معارضة بين الفقرتين وبعد المعارضة نرجع إلى أصل البراءة إن لم يكن هناك عموم يدلُّ على جواز تصرف المالك بكل ما شاء.
وجوابه قد اتضح من خلال ما ذكرنا:- حيث ذكرنا أن صدق الضرار ليس بواضحٍ في مقامنا إذ المالك لم يقصد من حفره الإضرار بالجار وإنما حفر ليدفع الضرر عن نفسه لا أكثر . فإذن فقرة لا ضرار لا يمكن التمسك بها في المقام فتبقى فقرة لا ضرر بلا معارض والنتيجة أنها تثبت للمالك الرخصة وتنفي الحرمة ، فالنتيجة هي نفس النتيجة ولكن بلا معارضة بين الفقرتين ثم الرجوع إلى الأصل.
والنتيجة النهائية من كل هذا:- إنا عرفنا أن التمسك بفقرة لا ضرار مشكل من ناحية إجمال كلمة الضرار فإنا نحتمل أن عنصر قصد الإضرار قد أخذ في المادة المذكورة فنبقى نحن وفقرة لا ضرر وهذه الفقرة - كما قلنا - صالحة لنفي كلا الحكمين فهي مبتلاة بالإجمال الداخلي ، وعليه فيعود المجال مفتوحاً للتمسك بالأصل العملي - أي البراءة -.
بل نتمكن أن نصعد اللهجة ونقول:- بالإمكان الرجوع إلى السيرة فإنها قد جرت على أن المالك للدار يتصرف في داره رغم أن جاره يتضرر ولا يتوقف من هذه الناحية ، ولكن استدرك وأقول إن ذلك فيما إذا كان التضرر ليس تضرراً فاحشاً - كأن يوجب تصرفه هدم دار جاره بالكل أو ما بحكم الكل - وإنما كان ضرراً ليس بالفاحش كالشقوق الطفيفة التي تحدث في جدار الجار ، إن السيرة جارية على ذلك وحينئذ نتمكن من الرجوع إليها والتي هي مدرك حديث السلطنة.
وإذا قلت:- إن هذه السيرة حيث أن حجيتها مشروطة بعدم الردع والمفروض أننا نحتمل أن حديث لا ضرر رادع عنها فتسقط عن الحجّيّة.
أجبت:- إن السيرة المذكورة هي ليست سيرة عقلائية بل هي سيرة متشرعية فإن المتشرعة يفعلون ذلك أيضاً ولا يتوقفون ما دام ضرر الجار ليس فاحشاً ، وعلى هذا الأساس تصير نفس هذه السيرة من قبل المتشرعة دليلاً على الجواز وبالتالي تصير مخصِّصة لحديث لا ضرر على تقدير شموله في حدِّ نفسه . إذن من هنا نستنتج أن بالإمكان التمسك بالسيرة لإثبات الجواز في محلِّ كلامنا - أعني مثل حفر البالوعة وما شاكله - مادام لا يلزم التضرر الفاحش في حق الجار إما للتعارض الداخلي في حديث لا ضرر فنرجع إلى الأصل أو نقول إنه يمكن التمسك بالسيرة المتشرعية المنعقدة على جواز ذلك.
[1]
مصباح الأصول، ج2، ص566.