الموضوع / التنبيه الثامن / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
الوجه الثالث:- وهذا الوجه لا يمكن نسبته إلى شخص بعينه وحاصله إنه لا إشكال في وجود حكم شرعي في المسألة الذكورة فالثابت شرعاً هو أما حرمة حفر البالوعة أو الرخصة في ذلك ولا يوجد احتمال ثالث ، والحرمة حيث أنها ضررية بلحاظ المالك فيرفعها حديث لا ضرر ، والرخصة حيث أنها ضررية في حق الجار فترتفع أيضاً بحديث لا ضرر . إذن حديث لا ضرر صالح لنفي كلا الحكمين وبالتالي لا يمكن تطبيق حديث لا ضرر في المورد المذكور فإن تطبيقه على أحدهما دون الآخر بلا مرجح وتطبيقه عليهما معاً يلزم منه ارتفاع المتضادين - أعني الحرمة والرخصة - وبعد عدم إمكان تطبيق الحديث في المورد نرجع إلى عموم ما دلّ على الرخصة للمالك في التصرف في ملكه - إن كان له وجود وإن لم يكن فإلى أصل البراءة والنتيجة واحدة على كلا التقديرين.
وهذا الوجه في روحه إن لم يكن عين الوجه الأول فهو قريب منه غايته أنه في الوجه الأول كنا ندعي المعارضة بين قاعدة السلطنة وقاعدة لا ضرر وهنا ألغينا قاعدة السلطنة من الحساب واكتفينا بحديث لا ضرر وقلنا حيث أنه لا يمكن تطبيقها على الحكمين معاً فنرجع الى الأصل.
وأشكل السيد الخوئي(قده)
[1]
بإشكالين:-
الاشكال الأول:- إن أحد الحكمين - كما ذكرنا - هو حرمة تصرف المالك في داره بحفر البالوعة وقد قلنا هو ضرري بلحاظه فيرتفع بحديث لا ضرر ، وهذا المقدار وجيه وتام ، ولكن قيل بعد ذلك ( والاحتمال الثاني كذلك ) فإن الاحتمال الثاني هو أن يكون الحكم هو الرخصة للمالك بالحفر وحيث أن الرخصة ضررية بلحاظ الجار فترتفع بحديث لا ضرر . وهنا وقف(قده) وقال:- إن حديث لا ضرر لا يشمل الرخصة وإنما يشمل الإحكام الإلزامية من وجوب أو حرمة وأما الاباحة والرخصة فلا ، والوجه في ذلك هو أن حديث لا ضرر يرفع الضرر الذي الحاصل بسبب الشارع وينتسب إليه كوجوب الوضوء في حق المريض فإنه لو وجب عليه الوضوء حالة مرضة لانتسب الضرر إلى الشارع فمثل الحكم المذكور يرتفع بحديث لا ضرر ، وأما إذا فرض أن الوضوء لم يكن واجباً حالة الضرر بل كان مرخصاً فيه فلو توضأ المكلف حالة مرضه وحصل له الضرر فهذا الضرر لا إلى الشارع بل ينتسب إلى المكلف نفسه إذ الشارع لم يلزمه بالوضوء بل قال له أنت مرخص في الفعل وفي الترك وهو قد اختار الفعل فالضرر إذن يتسب وليس إلى الشارع والحديث يرفع الضرر المنتسب إلى الشرع دون الضرر الذي يكون بسبب المكلف نفسه ، ومن هنا خرج بنتيجة وهي أن حديث لا ضرر لا يشمل الرخصة وإنما يختص برفع الأحكام الإلزامية .
وبناءً على هذا نقول في المقام:- إن الحكم إذا كان هو الرخصة في حفر البالوعة فالحديث لا يشملها للقاعدة التي أشرنا إليها وهي أن حديث لا ضرر لا يشمل الرخصة . إذن لا تحصل معارضة في تطبيق حديث لا ضرر بل نقول إن احتمال الحرمة مرفوعٌ وأما احتمال كون الرخصة هي الثابتة وهي المرفوعة لا يأتي إذ هذا كلام باطل إذ الرخصة لا يشملها حديث لا ضرر.
الإشكال الثاني:- إن حديث لا ضرر امتناني وحيث أن شموله للحرمة يلزم منه خلاف المنّة على الجار وهكذا شمول الحديث للرخصة حيث يلزم منه خلاف المنّة على المالك حيث لا يتمكن من الحفر فالحديث لا يشمل هذا الحكم ولا ذاك - وبهذا اتضح الفرق بين هذا الإشكال وبين سابقه .
ولكن ألفت النظر إلى أنه لو تم الاشكالان اللذان ذكرهما(قده) فهل يلزم عكس ما يراد فإنا نريد بهذا الاستدلال - الثالث - أن نثبت جواز جفر المالك للبالوعة فهل تختلف هذه النتيجة ويتبدل الحكم من الجواز إلى عدمه أو لا ؟ كلا بل تبقى النتيجة كما هي فالمناقشة مناقشة علميّة لا عملية فالتفت إلى هذه النكتة فإن لازم الإشكال الأول هو أن الحديث يشمل الحرمة فقط ولا يشمل الرخصة فالرخصة تكون ثابتة ، وهكذا في الإشكال الثاني إذا قلنا إن الحديث لا يمكن أن يشملهما معاً لأنه خلاف الامتنان فنرجع إلى الأصل ، فعملاً لا تتغير النتيجة ولكن القضية التي أشار إليها هي فنيّة لا أكثر فالتفت إلى ذلك
وكلا الإشكالين محلّ نظر:-
أما بالنسبة إلى الإشكال الأول:- فينبغي التفصيل بين نحوين من الرخصة ، فتارةً تكون الرخصة مرتبطة بالمكلف نفسه ولا ترتبط بشخصٍ آخر وهنا يتم ما أفاده(قده) ومثال ذلك الرخصة في الوضوء بالنسبة إلى المريض فإن الشرع لو رخّص له الوضوء وانتخب المكلف الوضوء فالضرر يكون بسببه وليس بسبب الشرع وهنا الرخصة ترتبط بدائرة المكلف وحده ولا ترتبط بغيره وهنا يتم ما ذكره(قده) ، وأخرى تكون الرخصة مرتبطة ومؤثرة في حق شخصٍ آخر كما هو الحال في المقام فإن الشرع إذا رخّص لصاحب الدار في حفر البالوعة التي يسبب حفرها الضرر على الجار فمثل هذه الرخصة تمسّ الجار فيمكن للجار أن يعترض على الشارع يقول ( إني لأجل ترخيصك أنت في حق المالك بالحفر وصل الضرر اليَّ ) فالضرر إذن حصل للجار بسبب الرخصة التي أثبتها الشارع لمالك الدار في الحفر . إذن ليس كل رخصة لا ينتسب الضرر فيها إلى الشارع وإنما يكون الأمر كذلك لو كانت الرخصة ذات مساحة مرتبطة بالمكلف نفسه ولا تتجاوز غيره وما ذكرناه يكون أوضح فيما إذا فرض أن الدواعي الطبيعية كانت موجودة لتطبيق الرخصة كما في الرخصة في حق البالوعة وهذا بخلافه في الرخصة في الوضوء حالة المرض فإن الدواعي ليست موجودة على تطبيق تلك الرخصة فيمكن أن لا ينتسب الضرر إلى الشارع في تلك الرخصة أي الرخصة في الوضوء الضرري وهذا بخلافه هنا فإن الدواعي للحفر مادامت موجودة فهي تؤكد انتساب الضرر إلى الشارع بسبب ترخيصه ، إذن موردنا له خصوصية وهي ما أشرنا إليه فالحديث كما يصلح أن ينطبق على الحرمة يصلح أن ينطبق على الرخصة في المقام.
وأما بالنسبة إلى إشكاله الثاني:- فيرد عليه ما ذكرناه سابقا من الجوابين:-
الأول:- إن فكرة الامتنان بالنسبة إلى حديث لا ضرر لو سلمناها فيمكن أن تكون ثابتة بلحاظ عالم التشريع - يعني أن الله عز وجل شرّع نفي الضرر بحكمة الامتنان على الناس - وهذه الحكمة أو نكتة الامتنان لوحظت في أصل التشريع ولا يبقى تطبيق الحديث يدور مدارها وجوداً وعدماً.
الثاني:- لو سلمنا أن نفي الضرر امتناني وقد أخذ الامتنان بنحو العلة دون الحكمة ولكن نقول:- إن الامتنان لوحظ بلحاظ من يراد تطبيق الحديث عليه فإنه يكفي لإشباع نكتة الامتنان هذا المقدار - أي ملاحظة الشخص الذي يراد تطبيق الحديث عليه - بقطع النظر عن كون الغير يحصل امتنان بلحاظه أو لا ، نعم إذا فرض أن الغير يتضرر فحينئذ تكون ملاحظة الأول دون الثاني حيث أنه دون مرجح عقلائي فلا يمكن أن يشمل الحديث المورد المذكور ، ففي المورد الذي لا يلزم منه تضرر الجار لا بأس بتطبيق الحديث ، نعم في موردنا قد فرضنا أن الجار يتضرر فلا يأتي جوابنا الثاني هنا وإنما الجواب الأول فقط وهو أن الامتنان لعله لوحظ بنحو الحكمة وليس بنحو العلة . إذن كلا الاشكالين قابلان للمناقشة.
وربما الأنسب الإشكال بإشكال ثالث:- وهو إذا سلمنا أن حديث لا ضرر لا يشمل الحرمة ولا الرخصة باعتبار أن شموله لهما يلزم منه رفع النقيضين ولأحدهما ترجيح بلا مرجح ، إنه لو تم هذا فبالإمكان أن يقال:- صحيح أن فقرة لا ضرر لا يمكن أن تشمل الحكمين معاً ولكن تبقى لدينا فقرة ( لا ضرار ) فبواسطتها نثبت حرمة تصرف المالك بحفر البالوعة فيقال:- لو أراد المالك أن يحفر البالوعة فسوف يلزم منه الاضرار بالجار وفقرة لا ضرار تقول الضرار - يعي الاضرار - بالآخرين مرفوع في الإسلام ولازم رفعه بالدلالة الالتزامية هو سدّ الباب والمنفذ إليه وأحد الأبواب هو تحريم الإضرار بالآخرين فيلزم على الشارع - بعد أن رفع الضرار والإضرار - بالدلالة الالتزامية تحريم الإضرار فيصير الإضرار هنا محرماً بمعنى أن المالك إذا حفر البالوعة في داره حيث يكون حفره لها إضراراً بالجار فيكون محرماً بفقرة ( لا ضرار ) . إذن فقرة لا ضرر لا يمكن التمسك بها لا لنفي الحرمة ولا لنفي الترخيص ولكن تبقى فقرة لا ضرار إذ هي تقول لا يجوز للمالك حفر البالوعة إذ لو حفرها لزم الإضرار بالآخرين وإذا لزم الإضرار بهم فهو حرام باعتبار أن الشارع قال ( لا ضرار ) ونفي الضرار في الإسلام لازمه تحريم الإضرار بالآخرين وبهذا الطريق سوف نثبت حرمة حفر البالوعة تمسكاً بفقرة لا ضرار بعد تعذر إمكان التمسك بفقرة لا ضرر ، وتكون النتيجة بناءً على هذا هي حرمة حفر البالوعة لا جواز ذلك.
[1]
مصباح الاصول، ج2، ص566.