الموضوع / التنبيه الثامن / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
الوجه الثاني:- وهو ما ذكره الشيخ الأعظم(قده)
[1]
وحاصله:- إنه يوجد لدينا من جانب المالك قاعدة تجوّز له حفر البالوعة - ولا نقصد بها قاعدة السلطنة كما كنّا نفترضه في الوجه الأول - وهي قاعدة نفي الحرج فإن المالك إذا منع من التصرف في داره بحفر البالوعة كان ذلك حرجاً عليه وتضييقاً لسلطنته وهو نحوٌ من الحرج . إذن بمقتضى قاعدة نفي الحرج والتي مستندها الآية المباركة:-
( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) يجوز للمالك أن يحفر البالوعة ، ولكن من الجانب الثاني توجد قاعدة في صالح الجار تمنع من ذلك وهي قاعدة لا ضرر فإن الجار سوف يتضرر ومادام يتضرر فلا يجوز للمالك حفر البالوعة ، وعلى هذا فماذا نفعل ؟
قال الشيخ الأنصاري(قده):- وحيث أن قاعدة لا حرج حاكمة على قاعدة لا ضرر فتتقدم عليها وبالتالي تبقى قاعدة نفي الحرج وحدها بلا معارض وبالتالي يجوز للمالك التصرف بالحفر ، وعند التنزل عن فكرة الحكومة تحصل معارضة وتساقط فنرجع إلى الأصل والنتيجة هي الجواز أيضاً في صالح المالك ، ونصُّ عبارته:- (( ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج لأن منع المالك لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه إمّا لحكومته على نفي الضرر وإما لتعارضهما والرجوع إلى الأصل )) ، هذا توضيح ما أفاده.
وفيه:- إن هذا الوجه مركب من صغرى وكبرى ، فالصغرى هي أنه توجد في جانب المالك قاعدة نفي الحرج وهي التي تجوّز له الحفر ، والكبرى هي أن قاعدة نفي الحرج حاكمة على قاعدة نفي الضرر.
وكلتا المقدمتين قابلة للمناقشة:-
أما الأولى:- فوجه المناقشة ليس هو ما أفاده الشيخ النائيني(قده)
[2]
فإنه لا يرى أن الحرج وإن كان منفياً في الإسلام لقوله تعالى
( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) ولكن الحرج المنفي هو ما كان على الجوارح دون ما كان على الجوانح ، فإن الحرج تارة يكون بلحاظ الجوارح - أي أعضاء البدن - فتلزم المشقة بلحاظ أعضاء البدن يعني أن المالك يلزمه في كل يوم أن ينزح الماء الوسخ وهذا حرج على الجوارح ، وهناك حرج على الجوانح - أي أن الإنسان يشعر من أعماقه يشعر بمشقةٍ وضيقٍ -فإن نفس منع الإنسان من التصرف في داره هو بنفسه مورثاً للمشقة والألم النفسي ، وهو(قده) يريد أن يدعي أن الحرج هو الأول دون الثاني والمفروض في مقامنا هو الثاني دون الأول لأنا قلنا في تقريب الوجه المذكور إن منع المالك من التصرف في ملكه بحفر البالوعة هو تضييق على سلطانه وهذا بنفسه حرج نفسي عليه ونحن نقول - يعني الشيخ النائيني - إن الحرج يكون بلحاظ الجوارح دون الجوانح).
ونحن نقول:- إن الصغرى ممنوعة لا لهذا الذي ذكره الشيخ النائيني(قده) إذ أن هذا واضح المناقشة إذ نقول له إن الحرج أوسع من ذلك فهو لا يختص بالجوارح بمقتضى اطلاقه فكما يكون بلحاظ الجوارح يكون بلحاظ الجوانح أيضاً وحيث أن الآية مطلقة ولم تقيد بالحرج من ناحية الجوارح فنأخذ بإطلاقها.
بل نصعّد اللهجة أكثر ونقول:- إن الحرج لا تصدق إلا بلحاظ الجوانح لا بلحاظ الجوارح فإن الحرج عبارة عن المشقة الشديدة وهذا لا يكون إلا بلحاظ النفس فإذا حصل بلحاظ النفس ضيق وشدة فهذا هو الحرج وإذا لم يحصل فلا حرج حتى لو فرض أن أعضاء البدن قد تعبت ، فلو فرضنا أن المكلف يحمل الماء في كل يومٍ ويرميه بعيداً وكان مستأنساً بذلك فرغم تعبه الجسدي لا حرج عليه بخلاف الذي يشعر في أعماقه بالضيق فهذا حرج حينئذٍ.
وعلى أي حال نقول:- إن الصغرى ممنوعة لا لما ذكره الشيخ النائيني(قده) بل لأن الحرج يختلف باختلاف الأشخاص فقد يكون الشخص حينما يُمنَع من التصرف في ملكه يقع في الحرج والمشقة النفسية بينما هناك شخص آخر لا يقع في ذلك لأن حاجته ضعيفة ، أو لأن الشخص الأول هو شخص عظيم فأدنى تضييق له يوجب حرجاً في حقه بينما الشخص الثاني ليست له تلك العظمة حتى يحصل في حقه الضيق ، كما أنه قد يكون التصرف الممنوع مختلف فبعض التصرفات قد يكون المنع عنها مورثاً للحرج بينما البعض الآخر لا يكون المنع منها مورثاً للحرج . إذن لا نتمكن أن نقول إن منع المالك من التصرف في ملكه هو مطلقاً حرج كما ذكره الشيخ الأعظم(قده) ، بل نقول إنه يختلف باختلاف الأشخاص والأشياء الممنوع من التصرف فيها والحالات وليس الأمر كذلك دائماً وإنما يتم في مساحة معيّنة وليس بشكلٍ مطلق كما أراد(قده).
وأما بالنسبة إلى الكبرى:- فقد أفاد(قده) أن قاعدة لا حرج حاكمة على قاعدة لا ضرر وهذا من الأمور الغريبة فإن كلتا القاعدتين ناظرتان إلى حكمٍ ثانوي فهما تريدان أن تجعلا قاعدةً تنظر إلى الأحكام الأوَّلية فقاعدة لا ضرر ناظرة إلى الأحكام الأولية وتقول ( كل حكم ثبت في الشرع فهو محدّد ومقيّد بحالة عدم الضرر ) وقاعد لا حرج أيضاً كذلك فهي ناظرة إلى الأحكام الأولية وتريد أن تقول ( كل حكم جعل في الشرع هو محدّد بحالة عدم حصول الحرج ) فهما في عرضٍ واحدٍ لا أن قاعدة لا حرج ناظرة إلى قاعدة نفي الضرر ، إنه غريب حقاً . وعلى هذا الأساس يكون هذا الوجه باطلاً من حيث الصغرى والكبرى.
[1]
تراث الشيخ الأنصاري، تسلسل الكتاب رقم25، ص465.
[2]
رسالة لا ضرر المطبوعة ضمن كتاب منية الطالب، ج3، ص428.