الموضوع / التنبيه الثامن / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وأما بالنسبة إلى المقدمة الثانية - أعني حديث لا ضرر - فقد يقال انه ليس شاملاً للمقام وذلك لأمرين:-
الأمر الأول:- إن حديث لا ضرر امتناني وإذا أراد الجار أن يطبقه على نفسه فهو إن انتفع به وكان ذلك في صالحه لكن لازم ذلك هو أن المالك لا يحق له أن يحفر البالوعة مثلاً - يعني تضييق سلطنته وتحجيمها - وهو مخالف للامتنان . إذن حديث لا ضرر لا يمكن تطبيقه في المقام لأن تطبيقه يستلزم خلاف المنّة على مالك الدار ، وعليه فلا يمكن التمسك به.
وفيه:-
أولاً:- إنا ذكرنا سابقاً أنه لا يظهر من حديث لا ضرر كونه وارداً مورد الامتنان ، وإذا سلمنا وقلنا إن نفس نفي الضرر لخصوصيةٍ في مادة الضرر يفهم منها الامتنان فيكفي لإشباع ذلك كون الامتنان بنحو الحكمة لا بنحو العلة فالحكمة في رفع الحكم الضرري هو الامتنان على الأمة فالامتنان لوحظ في مقام التشريع كحمة له لا أنه أخذ كعلة بحيث يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً.
وثانياً:- سلمنا ورود الحديث ورود الامتنان بحيث يدور الرفع مداره وجوداً وعدماً ولكن نقول:- ما المقصود من الامتنان ؟ إن المقصود هو الامتنان بلحاظ من يراد تطبيق الحديث عليه - وهو الجار - فإن تطبيق الحديث على الجار يلزم منه الامتنان عليه ولا يلزم أن يكون الامتنان ثابتاً بلحاظ الآخرين أيضاً بل يلزم أن يثبت بلحاظ نفس من يراد تطبيق الحديث عليه فإنه لا يظهر من الحديث أن الامتنان الملحوظ فيه قد لوحظ بالنسبة إلى الجميع بل القدر المتيقن هو ملاحظة الامتنان بلحاظ من أراد تطبيق الحديث عليه ، نعم يلزم أن لا يتضرر الثاني - أعني المالك - وإلا صار المورد من تعارض الضررين وإنما نفترض أن المالك للدار سوف تتحجم سلطتنه من دون أن يتضرر إنه في هذه الحالة نقول إنه لا يظهر من الحديث أنه امتناني إلا بمقدار تطبيق الحديث عليه . إذن ينبغي الالتفات إلى ما نريد أن نقول.
إذن من هذه الناحية لا إشكال في تطبيق حديث الضرر على الجار.
الأمر الثاني:- إن المورد من موارد تعارض الضررين فلا يمكن تطبيق حديث لا ضرر على أحدهما لأجل المعارضة فيقال هكذا:- إنا لو طبقنا الحديث على الجار فلازم التطبيق أن سلطنة المالك سوف تتحجم فإذا فرضنا أنه يقع في الضرر من ذلك بأن كان نفس تحجيم سلطنته ضرراً عليه فسوف نطبق حدث لا ضرر على المالك أيضاً وتطبيقه على الجار دون المالك ترجيح بلا مرجح فيكون المورد من تعارض الضررين وبالتالي لا يمكن تطبيق حديث لا ضرر على الجار كما لا يمكن تطبيقه على المالك وبذلك يعود الميدان خالياً لحديث السلطنة الذي يجري في صالح المالك.
هذا ولكن الشيخ النائيني(قده) ذكر في رسالة لا ضرر
[1]
أن المورد ليس من تعارض الضررين - يعني بحيث يمكن تطبيق حديث لا ضرر على الجار وعلى المالك - كلا ، والوجه في ذلك هو أن المورد يكون كذلك فيما لو فرضنا أنه يوجد دليلان أحدهما يخاطب المالك ويقول له ( يجوز لك أن تحفر بالوعة ) كحديث السلطنة ويوجد دليل ثانٍ يتوجه إلى الجار ويقول له ( أيها الجار لك حق الممانعة والتحفظ على دارك من الضرر ) إنه في هذه الحالة سوف يكون الحكم الأول موجباً للضرر على الجار فيشمله حديث لا ضرر والحكم الثاني سوف يكون موجباً للضرر على المالك فيشمله حديث لا ضرر فيكون من تعارض الضررين فهنا نسلم صيرورة المورد من تعارض الضررين ولكن بشرط أن يكون هناك دليلان وحكمان أحدهما يخاطب مالك الدار والآخر يخاطب الجار ، ولكن المفروض في مقامنا ليس كذلك فإن المفروض في المقام أنه يوجد عندنا حديث السلطنة فقط وفقط وعندما أراد مالك الدار تطبيق حديث السلطنة عليه لزم تضرر الجار فجاء حديث لا ضرر ورفع سلطنة المالك وحجّمها لكي لا يقع الجار في الضرر ، ولحد الآن الموقف جيد وليس فيه إشكال.
ولكن بعد ذلك قلنا إنه سوف يلزم تضرر المالك فنطبق حديث لا ضرر عليه ، ومن المعلوم أن تضرر المالك نشأ من تطبيق حديث لا ضرر على الجار فالضرر المذكور في حق المالك جاء بسبب تطبيق لا ضرر لا أن هناك حكماً ودليلاً في حق المالك يقول له ليس لك سلطنة على حفر البالوعة حتى يأتي حديث لا ضرر ويشمله وإنما ضرره نشأ من تطبيق حديث لا ضرر في صالح الجار وفي مثل ذلك لا يكون المورد من تعارض الضررين والوجه في ذلك هو أن حديث لا ضرر ناظر إلى الضرر الناشئ من الأدلة الأولية الأخرى وليس ناظراً إلى الضرر الناشئ منه ومن تطبيقه ، وعليه فالمورد ليس من تعارض الضررين - يعني لا يمكن أن نقول إن لا ضرر كما تجري في صالح هذا الطرف تجري في صالح ذلك الطرف - بل المناسب أنها تجري في صالح الجار فقط دون المالك إذ أن ضرر المالك نشأ من تطبيق لا ضرر في صالح الجار وهذا الضرر لا ينظر إليه حديث لا ضرر.
وفيه:- إن ما أفاده(قده) يتم فيما لو فرض أن لا ضرر يحكم في مساحة ضيقة وهي ما إذا فرض وجود دليلٍ في المرحلة السابقة يستلزم تطبيقه الضرر ، ولكن نقول:- إن حديث لا ضرر كما يشمل هذه الحالة - أي حالة وجود دليل أوَّلي - يشمل أيضاً حالة ثانية وهي أنه ينفي أي حكم يكون أصل ثبوته يستلزم الضرر وكأن حديث لا ضرر يريد أن يقول ( لا يوجد في شريعة الاسلام ضرر فإن كانت هناك أحكام وأدلة مطلقة فأنا أضيقها بحالة الضرر وإذا كان أصل ثبوت الحكم يستلزم الضرر فهو منفي أصلاً ) فإذا قبلنا أنه حاكم بهذا المعنى وبهذه المساحة الأوسع فحينئذ نقول:- إذا طبقنا حديث لا ضرر على الجار فسوف يتضرر المالك وإذا تضرر المالك وقلنا له لا يجوز لك أن تحفر فهذا معناه أن شريعة الاسلام قد اشتملت على حكم ضرري - وهو أنه لا يجوز للمالك أن يحفر البالوعة ما دام يتضرر الجار - وحديث لا ضرر كما يضيق الأدلة الأوَّلية ينفي أيضاً ومن الأساس وجود أي حكم ضرري ومنه هذا الحكم ، وبناءً على هذا يحصل التعارض ويكون تاماً.
وبذلك اتضحت النتيجة النهائية وهي أن حديث لا ضرر لا يمكن تطبيقه في المقام لأجل المعارضة وبذلك يعود الميدان خالياً لحديث السلطنة ومن ثم نحكم بجواز تصرف المالك . ولكن نلفت النظر إلى أنه لو فرض أن حديث السلطنة لا يمكن تطبيقه أيضاً إما لضعف سنده أو لغير ذلك فهل نرفع يدنا عن الجواز أو نبقى عليه ؟ نعم نبقى نحكم بالجواز تمسكاً بأصل البراءة رغم عدم وجود حديث السلطنة.
والنتيجة:- إن هذا الوجه لإثبات الجواز تام ولكن ليس لأجل المعارضة بين حديث لا ضرر وحديث السلطنة ثم الرجوع إلى أصل البراءة بل لأجل أن حديث لا ضرر لا يمكن تطبيقه فيبقى الميدان خالياً لحديث السلطنة.
[1]
رسالة لا ضرر، ص428.