الموضوع / التنبيه السابع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
الإشكال الثاني:- إنه توجد موارد لا يوجد فيها عموم ورغم ذلك تتحقق الحكومة فلو كانت الحكومة تعني النظر إلى العموم فيلزم أن لا تتحقق حكومة هنا لأنا قد فرضنا عدم وجود العموم ، ومن أمثلة ذلك باب الطلاق فإنه قد وردت وراية تقول
( لا طلاق إلا بإشهاد ) فإن هذا من أمثلة الحاكم جزماً ولكن لا يوجد عمومٌ فإنا لو رجعنا إلى الآية الكريمة الواردة في تشريع الطلاق نجد أنها هي قد اشترطت وجود الشاهدين فلا يوجد عموم يقتضي صحة الطلاق ولو بلا شهادة بل هي قد صرحت باعتبار الشهادة . إذن العموم ليس بموجود ومع ذلك أتي بالحاكم وهو الآية الكريمة:-
( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة ... فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عــدل منكـم وأقيـموا الشـهادة لله )
[1]
واشترطت شهادة ذوَي عدلٍ في الطلاق . إذن هي لا عموم فيها ولا اطلاق من هذه الناحية بل مقيدة باعتبار شهادة ذوَي عدلٍ ولكن رغم ذلك جاءت رواية وقالت ( لا إشهاد إلا بطلاق ) فإذا كان الحاكم والحكومة يعنيان النظر إلى العموم فهنا يلزم أن لا يتحقق الحاكم والحكومة إذ لا عموم حسب الفرض.
وفيه:- إنا لو سلمنا بالأصول الموضوعية لهذا الاشكال ، أعني أن دليل شرعية الطلاق ينحصر بهذا ولا يوجد دليل آخر مطلق وسلمنا أن قوله تعالى ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) يرجع إلى الطلاق لا إلى المفارقة بمعروف عند انتهاء العدة فإنه يوجد احتمال في الآية أن المقصود هو أن الزوج إذا طلق زوجته فينتظر إلى أن تنتهي العدّة ولا يخرجها من البيت فإذا أوشكت العدّة على الانتهاء فإما أن يمسكها بمعروف أو أنه يفارقها بمعروف فيحمل الأمر في ( وأشهدوا ) على الاستحباب يعني تصير الشهادة على انتهاء العدة حتى تتمكن المرأة بعد ذلك من الزواج إن هذا احتمال موجود في الآية ، ولكن نحن نقول:- لو غضضنا النظر عن هذا وذاك وافترضنا أن الأصول الموضوعية تامّة لهذا الاشكال ولكن نقول إن أصحاب فكرة النظر حينما فسّروا الحكومة بالنظر لا يقصدون أنه يلزم وجود عموم أو اطلاق إثباتاً حتى يكون الحاكم ناظراً إلى ذلك العموم أو الاطلاق ، كلا إنهم لا يقصدون ذلك - أعني ضرورة وجود اطلاق أو عموم - وإنما المهم هو وجود حكمٍ فقد يتصور متصوّر أن هذا الحكم يشمل حتى حالة عدم الشهادة فيأتي ويؤكد ويقول إن الشهادة معتبرة في الحكم بالطلاق بنحو اللزوم فلا طلاق إلّا بإشهاد فيوضّح حال ذلك الحكم ثبوتاً وأنه يختص بحالة الشهادة سواء فرض وجِد عموم إثباتاً أم لم يوجد فوجود العموم إثباتاً ليست قضية ضرورية وإنما الشيء الضروري هو وجود حكمٍ فدفعاً لشبة واحتمال أن ذلك الحكم له شمولية لحالة عدم الشهادة يأتي ويقول ( لا طلاق إلا بإشهاد ) . إذن لا يلزم في تحقق الحاكم والحكومة وجود إطلاق أو عموم بل يلزم وجود حكمٍ حتى ينظر هذا لذاك الحكم ويبيّن أنه محدود بهذه الحالة.
الإشكال الثالث:- إنه في بعض الموارد يتحقق الحاكم وهو يستبطن في أحشاءه افتراض عدم وجود حكمٍ ومعه فكيف نفسّر الحاكم بالناظر إلى الحكم بعد الالتفات إلى أن الحاكم هو أحياناً في أحشاءه يعترف بعدم وجود حكمٍ حتى يكون ناظراً إليه ، ومن أمثلة ذلك حديث الرفع - أعني فقرة ( رفع ما لا يعلمون ) - فإنه قد افترض أن الحكم مرفوعٌ وليس بثابتٍ فمادام لا يُعلَم فهو مرفوع وليس بثابتٍ . إذن الحكم لا ثبوت له حتى يكون حديث الرفع ناظراً إليه !! وفيه:- إنه يوجد حكم من الأحكام جزماً مثل وجوب الصلاة أو الصوم ويأتي هذا الحديث - اي رفع ما لا يعلمون - ويقول إن ذلك الحكم المشرَّع ليس بثابتٍ في حق من لا يعلم . إذن يوجد حكم وهو ( أقيموا الصلاة ) ولكنه يكون مرفوعاً في حالة الجهل ولا تتصور أيها المكلف أنه يمتدّ إلى غير العالم بل هو مرفوع عنه ، إن رفعه عن غير العالم لا يعني أنه ليس بثابتٍ أصلاً بل هناك حكم ثابت ويراد أن يبيَّن أن مساحته ضيقة تختص بالعالم دون غير العالم.
الوجه الخامس من وجوه تفسير الحكومة:- وهو أن نقول:- إن الحاكم هو عبارة عن الدليل الذي يكون لسانه لساناً مسالماً بلحاظ المحكوم بخلاف التخصيص فإن لسانه لسان المجابهة والمعارضة والمنافاة ، فإذا قيل ( أكرم كل عالم ) فمرة يقول ( لا تكرم العالم الفاسق ) فإن لسان هذا لسان المجابهة والمنافاة مع ( أكرم العالم وهذا بخلاف مثل لسان ( الفاسق ليس بعالم ) فإن لسانه لسان المسالمة دون المعاندة إذ هو لا يقول ( لا تكرم العالم الفاسق ) بل يقول ( هو ليس بعالم ) وعليه فلسانه لسان المسالمة وهذا هو عبارة عن الحكومة والحاكم ، فالحكومة هي من شؤون اللسان وطريقة البيان - أعني أن يكون اللسان لسان المسالمة - أما لماذا يتقدم الحاكم على المحكوم ؟ ذلك باعتبار أن الحاكم يريد أن يُحجِّم حجيّة الارتكاز فيوجد ارتكاز عرفي عقلائي اجتماعي بأن كل عالم لابد من إكرامه والمتكلم يعدل من اللسان الصريح - أي لسان المجابهة - إلى اللسان غير الصريح - أي اللسان المسالم - تحفظاً من مجابهة ذلك الارتكاز وبالتالي هو يريد أن يحدّد ذلك الارتكاز من حيث الحجيّة ويقول إن ذلك الارتكاز حجّة في حدود العالم غير الفاسق وأما العالم الفاسق فذلك الارتكاز لا يكون حجّة بلحاظه . إذن يقدّم الحاكم لأنه ناظر إلى تحديد حجيّة الارتكاز فبهذا الاعتبار يكون مقدَّماً.
ويرد عليه ما أشرنا إليه سابقاً:- من أنه لا معنى لتفسير الحكومة بشيءٍ ونكتةٍ التقدم بشيءٍ آخر فإن الحكومة مصطلح أصولي لا ينبغي تفسيره كيفما اتفق بل لابد من ملاحظة نكتة التقدم وتفسير الحكومة على طبق تلك النكتة ، ولكن لو غضضنا النظر عن هذه القضية وسلمنا أنها قضية فنية نقول:- إنه ليس من شأن المشرّع إلّا النظر إلا إلى أحكامه الشرعية ولا معنى لأن ينظر إلى الارتكاز فإنه لا يليق بمقامه فالمناسب تحديد حجيّة ذلك الحكم الذي شرّعه ببيان أنه حجّة وخاص بهذه الدائرة - وهي دائرة العالم العادل - لا النظر إلى الارتكاز فإنه لا يليق بشأنه . وعلى أي حال المناسب في باب الحكومة تفسيرها كما اتضح بالنظر التي هي نفس نكتة تقدّم الحاكم فيتّحد معنى الحكومة مع تلك النكتة.
وقد يشكل مشكل ويقول:- إذا فسرنا الحكومة بالنظر فماذا نصنع بالنسبة إلى الاستصحاب السببي والمسببي مثلاً ؟ فإن السببي يقال بأنه حاكم على المسبَّبي والحال أنه لا معنى للنظر إذ المفروض أن دليلهما معاً واحد وهو ( لا تنقض اليقين بالشك ) لا أن لهذا دليل ولذاك دليل آخر حتى يكون دليل هذا ناظراً إلى دليل ذاك بل هما معاً يرجعان إلى دليلٍ واحدٍ ولا معنى للدليل الواحد لأن ينظر في داخله إلى بعض أجزاءه وإنما النظر من شؤون الدليلين كما هو واضح ، وهذا إشكال يتسجل على أصحاب فكرة تفسير الحكومة بالنظر ولا يأتي على ما ذهب إليه الشيخ النائيني(قده) لأنه يقول إن الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين متصرفاً في موضوع الآخر بتوسعةٍ أو بضيقٍ - يعني برفعٍ أو بإثباتٍ - وهذا التفسير لا يختص بالأدلة اللفظية بل يعمّ الاستصحاب الحاكم أيضاً فإنه يتصرف في موضوع الدليل المحكوم فالدليل الحاكم يثبت الموضوع - يعني طهارة الماء - والاستصحاب المحكوم - يعني المسببي - يحكم ببقاء النجاسة باعتبار أنه هل غُسِل الثوب بماءٍ طاهرٍ أو لا ؟ فإذا أثبت الاستصحاب طهارة الماء وأن هذا الماء طاهر فقد أثبت فرداً من الموضوع وبالتالي أثبت موضوع الحكم المحكوم وبالتالي تتحقق الحكومة . إذن على تفسير الشيخ النائيني(قده) للحكومة الذي لا يأتي هذا الاشكال ، وواضح أن هذا تيم بعد ضمّ ضميمة أخرى وهي البناء على مسلك جعل العلمية أو الإحراز فإن الأصل السببي من الأصول المحرزة فالمكلف باستصحاب الطهارة في الماء يصير محرزاً للطهارة فاستصحاب نجاسة الثوب لا يجري لأنه ثبت أن الماء ليس بنجسٍ بل هو طاهر.
وإنما يرد الإشكال على أصحاب فكرة النظر فما هو الجواب ؟
والجواب:- يمكن أن نقول بأن الاستصحاب السببي هو مقدمٌ على المسببي ولكن لا لأجل النظر - أي الحكومة من خلال النظر - بل لنكتة أخرى وهي أن الاستصحاب السببي يعالج وينقّح حال الموضوع بينما الاستصحاب المسببي ينقّح الحكم بقطع النظر عن الموضوع والعرف متى ما رأى دليلين أحدهما يعالج الموضوع والآخر يعالج الحكم فما يعالج الموضوع يراه متقدماً على ما يعالج الحكم ، وهذا نقوله بقطع النظر عن مسألة جعل العلمية ووصف الإحراز فإنه حتى لو أنكرنا كل هذا نقول مادام الأصل السببي يعالج الموضوع - أي يثبت أن الماء طاهر - بينما ذاك يثبت نجاسة الثوب الذي هو حكمٌ فالذي ينظر إلى الموضوع ويعالجه هو عند العرف بما هو هو يكون مقدماً على ما يعالج الحكم ، وعلى هذا الأساس فلا مشكلة من هذه الناحية.
[1]
الطلاق، الآية 1.