الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/03/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه السابع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 التنبيه السابع:- وجه تقدم حديث لا ضرر على غيره.
 اتفق الفقهاء على أنه لو فسرنا حديث لا ضرر بنفي الحكم الضرري فهو مقدم على أدلة الأحكام الأولية رغم أن النسبة بينهما نسبة التعارض بنحو العموم من وجه ، فمثلا دليل وجوب الوضوء الذي هو دليل الحكم الأوَّلي لو لاحظناه بالقياس إلى حديث لا ضرر فالنسبة بينهما هي العموم من وجه إذ دليل وجوب الوضوء يثبت وجوب الوضوء بشكل مطلق يعني لا يختص بحالة عدم الضرر بل يعم بإطلاقه لحالة الضرر أيضاً وهكذا حديث لا ضرر لا يختص بالوضوء الضرري بل يعم كل ضرر سواء كان في الوضوء أو في غيره ومادة الاجتماع هي الوضوء الضرري والتعارض يحصل في مادة الاجتماع هذه ، ولكن رغم ذلك اتفقوا على تقديم حديث لا ضرر . والسؤال ما هي النكتة في التقديم المذكور ؟
 وذكر الشيخ الأعظم(قده) في رسائله [1] وجوهاً ثلاثة لتقديم حديث لا ضرر أحدها الحكومة وقد اختار ذلك وفيما يلي نذكر تلك الوجوه:-
 الوجه الأول:- وقد أشير إليه في الرسائل وحاصله:- إن النسبة كما قلنا هي العموم من وجه ولكن يقدم الحديث على الأدلة الأولية إما لأجل عمل الأصحاب أو لأجل موافقة الأصل له فإن الوضوء في حالة الضرر نشك في وجوبه وأصل البراءة يقتضي عدم الوجوب وهذه النتيجة موافقة لحديث لا ضرر فيكون الأصل داعماً ومرجِّحاً له ، وظاهر عبارته(قده) أن الأصل يكون مرجّحاً.
 ولكن قد يقال:- إنه يمكن أن يتعارضاً ويتساقطاً ويكون الأصل مرجعاً وتبقى النتيجة كما هي ، فالأصل إما أن نجعله مرجّحاً أو نجعله مرجعاً وإن كان يلوح من عبارة الشيخ في الرسائل أنه مرجّح ولكن السيد الخوئي(قده) [2] جعله مرجعاً.
 وعلى أي حال يحصل التعارض ويقدّم الحديث إما لعمل الأصحاب أو لموافقته للأصل.
 وفيه:- إن النوبة لا تصل إلى إعمال المرجّحات كعمل الأصحاب أو موافقة الأصل فإنه يوجد جمع عرفي بين الدليلين - أعني الحكومة - كما سوف نثبت ذلك فيما بعد إنشاء الله تعالى وامكان الجمع بين الدليلين بنحو الحكومة التي روحها التخصيص ولكن اللسان مختلف كما يأتي إنشاء الله ، فبعد إمكان الجمع بما ذكر لا معنى لأن نقول ( إذن هناك تعارض مستقر فنُعمِل المرجّح وهو عمل الأصحاب و الأصل ) كلا إنه لا تعارض مستقر بل التعارض غير مستقر لإمكان الجمع العرفي فلا تصل النوبة إلى ما ذكر.
 هذا مضافاً إلى أن عمل الأصحاب - أعني كثيراً منهم أو أكثرهم - ليس مرجّحاً فإن هذا عبارة أخرى عن الشهرة الفتوائية على طبق حديث لا ضرر وهي لم تثبت حجيتها ، نعم لو فرض أن الأصحاب اتفقوا بأجمعهم على ذلك فنعم ولكن أين هذا ؟! فإن البعض ذهب إلى أن حديث لا ضرر يعني نفي الحكم الضرري وإلّا فهناك بعض آخر لم يفسّره كذلك بل فسّره بالنهي عن الضرر أو فسّره بشكل آخر فلو فرض أن جميع الأصحاب كانوا يفسرون الحديث بنفي الحكم الضرري وبعد ذلك كلّهم قالوا بتقديم حديث لا ضرر فهذا لا بأس به فإنه يولّد الاطمئنان على وجود نكتة للتقديم وصلت إليهم يداً بيد ولكنها خفيت علينا ولكن واقع الحال ليس كذلك.
 وأما بالنسبة إلى ذِكر الأصل كمرجّح فهو شيء غريب فإن الأصل يدل على حكم ظاهري فلا معنى لترجيح ما يدل على الحكم الواقعي يعني حديث لا ضرر بما يدل على الحكم الظاهري ، إنه لا توجد مشابهة بينهما في الروح حتى يدعم أحدهما الآخر ، ولعل هذا هو الذي دعا السيد الخوئي(قده) [3] أن يجعل الأصل مرجعاً لا مرجّحاً ، وعليه فهذا الوجه الأول لا معنى للتمسك به.
 وقبل أن ننتقل إلى الوجه الثاني نطرح هذا التساؤل:- وهو إن الأصل تارةً نجعله مرجّحاً لحديث لا ضرر - كما هو ظاهر عبارة الرسائل - وأخرى نجعله مرجعاً بعد التعارض والتساقط هل تترتب على ذلك ثمرة عملية لا مجرد علمية ؟ فإن الثمرة العلمية واضحة إذ على أحدهما يكون الأصل مرجّحاً والمستند بالتالي للحكم يصير هو حديث لا ضرر إذ قد ترجّح بالأصل بينما على الثاني يكون مستند الحكم هو الأصل وليس حديث لا ضرر بيد أن هذا ثمرة علمية ، والسؤال:- هل توجد ثمرة عمليّة أكثر من الثمرة العلميّة ؟
 والجواب:- ذكر السيد الخوئي(قده) أنه توجد ثمرة عمليّة وذلك أن يقال:- إنا لو جعلنا الأصل مرجّحاً فسوف يثبت انتفاء وجوب الوضوء واقعاً وبالتالي يثبت وجوب التيمم فيكتفي المكلف بالتيمم ، وأما لو جعلناه مرجعاً فلا يكفي التيمم بل لابد من ضمّ الوضوء [4] ، أما لماذا إذا جعلنا الأصل مرجّحاً يكتفى بالتيمم وأما لو جعلناه مرجعاً فلابد من الجمع بين الوضوء والتيمم ؟ لم يوضح ذلك(قده) ولعله لوضوح المطلب.
 ولتوضيح ذلك نقول:- إذا جعلنا الأصل مرجّحاً فالذي نتمسك به هو حديث لا ضرر وحديث لا ضرر ينفي الوجوب واقعاً في حالة الضرر فيرفع وجوب الوضوء واقعاً في حالة الضرر ويقول ( هذا الوضوء الضرري ليس بثابت وجوبه واقعاً ) وإذا انتفي وجوب الوضوء واقعاً تعيّن آنذاك التيم.
 ولا تقل:- إن هذا أصل مثبت ، يعني أن هذه الطريقة تحتاج إلى ضم الملازمة غير الشرعية وذلك بأن تقول ( نحن نعلم أنه واقعاً إما أنه يجب الوضوء أو يجب التيمم فإذا انتفى وجوب الوضوء واقعاً تعيّن التيمم وهذه ملازمة غير شرعية فهذا لا يجوز ).
 والجواب واضح:- فإن الأصل المثبت ليس بحجّة لا الخبر والدليل الاجتهادي المثبت ليس بحجّة ، فالأصل المثبت ليس بحجّة وأما الدليل الاجتهادي فلوازمه غير الشرعية هي حجّة ومتفق عليه بلا كلام . فعلى هذا الأساس لا إشكال من هذه الناحية.
 وبالجملة:- إذا رجحنا بالأصل فحديث لا ضرر سوف ينفي وجوب الوضوء واقعاً فيثبت وجوب التيمم واقعاً بينما إذا جعلنا الأصل مرجعاً ففي مثل هذه الحالة نقول لا يوجد ما ينفي الوجوب الواقعي للوضوء فإن الأصل الذي هو المرجع ليس بناظر إلى الواقع بل ينفي الوجوب على مستوى الظاهر ، وعليه فعلى مستوى الواقع يحصل علم اجمالي إما بوجوب الوضوء وإما بوجوب التيمم فلابد آنذاك من الجمع بينهما لأجل هذا العلم الاجمالي ، هذا ما أفاده(قده).
 وفي مقام التعليق نقول:- يمكن أن نصل إلى نفس النتيجة وذلك بأن نقول:- صحيح أن الأصل لو كان مرجعاً فهو ينفي الوجوب ظاهراً ونسلم أنه يحصل علم إجمالي بأنه واقعاً يجب إما الوضوء أو التيمم ، ولكن يمكن أن نتمسك بحديث لا ضرر لا لنفي وجوب الاحتياط بالجمع بين الوضوء والتيمم ليقال إن وجوب الاحتياط حكم عقلي وحديث لا ضرر لا يرفع الأحكام العقلية ، كلا وإنما نتمسك بحديث لا ضرر لرفع أحد طرفي العلم الاجمالي - أعني وجوب الوضوء - لأن المفروض أنه ضرر فيرتفع بحديث لا ضرر ويبقى آنذاك وجوب التيمم يلزم الاحتياط من ناحيته لعدم الرافع له فإن الرافع - وهو حديث لا ضرر - يرفع وجوب الوضوء فقط فإنه ضرري أما بالنسبة إلى التيمم فهو ليس بضرري.
 إن قلت:- إننا قد فرضنا في المرتبة السابقة أن حديث لا ضرر قد سقط بالمعارضة مع دليل الحكم الأوَّلي ورجعنا إلى الأصل كمرجع وهذا معناه أن حديث لا ضرر قد سقط فكيف رجعت إليه الآن وأخذت به لنفي وجوب الوضوء إن هذا خلاف ما فرضناه أولاً ؟
 قلت:- إن الذي سقط بالمعارضة في المرتبة السابقة هو إطلاق وجوب الوضوء واطلاق حديث لا ضرر ، يعني حيثية الاطلاق من هنا مع حيثية الاطلاق من هناك سقطتا فحيثية الاطلاق هي قد سقطت لا أن حديث لا ضرر قد سقط من الأساس ، وعلى هذا الأساس نأتي هنا ونقول:- نحتمل واقعاً وجوب الوضوء بسبب العلم الاجمالي فيأتي حديث لا ضرر ويرفع هذا الوجوب الواقعي المحتمل ، إذن حديث لا ضرر نتمسك به هنا لا لإسقاط اطلاق الحكم الآخر بل لنفي احتمال الوجوب الواقعي للوضوء ، وعليه يعود وجوب التيمم بلا مانع من هذه الناحية ، وبالتالي عادة النتيجة واحدة على كلا التقديرين ، وهذا من المطالب الظريفة التي ينبغي الالتفات إليها.


[1] الرسائل تسلسل الكتاب 25 ج2 462.
[2] دراسات أصولية 3 512.
[3] في دراسات اصولية.
[4] وقد أشار(قده) إلى ذلك في دراسات أصولية 3 512.