الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه الخامس / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 الوجه الرابع:- وهو للشيخ النائيني(قده) أيضا [1] وحاصله:- إن الحديث لو شمل الأحكام العدميّة فسوف يكون دالاً على تدارك الضرر لا رفعه والحال أن الحديث رافع للضرر لا أنه يتداركه . إذن الحديث لا يشمل الأحكام العدمية.
 ولتوضيح ما أفاده(قده) لابد وأن نبين:-
 أوّلاً:- الفارق بين تدارك الضرر وبين رفعه.
 وثانياً:- كيف يلزم أن يكون المورد من باب التدارك لا من باب رفع الضرر لو شمل الحديث الأحكام العدمية ؟
 وثالثاً:- لماذا يرفع الحديث الضرر ولا يتداركه ؟
 إذن لابد من بيان ثلاثة أشياء حتى يتبين مقصود الشيخ النائيني(قده).
 أما بالنسبة إلى التفرقة بين التدارك وبين رفع الضرر:- هو أنا تارة نحول دون أن يقع الانسان في الضرر كما إذا فرض أنه أراد شخص آخر أن يتجاوز عليه ونحن منعناه من التجاوز كما لو أراد أن يضربه فنهيناه فهنا يكون المورد هو رفع للضرر ، أما فرض أنه ضربه ولكن نحن أجرينا له علاجاً ودفعنا له أموالاً وغير ذلك حتى طيّبنا خاطره فهنا يقال هذا تدارك للضرر وليس رفع له . إذن الفارق بين التدارك والرفع هو أنه في التدارك يفترض وقوع الضرر والطرف الآخر يحاول أن يجبره أما رفع الضرر فمعناه الحيلولة دون وقوعه من الاساس وإن كان في التعبير بكلمة ( الرفع ) مسامحة لأن الرفع فرع الوقوع ولكن يمكن أن نعبّر بعبارة أخرى كمنع الضرر -.
 وأما بالنسبة إلى أن الأحكام العدمية لو شملها الحديث يلزم أن يكون المورد من باب التدارك لا من باب المنع:- فوجهه هو أن قفص طائر الشخص مثلاً حينما يفتح ويطير الطائر فالضرر قد حصل وإذا عوضت بعد ذلك ببدل من مثل أو قيمة فهذا لا يعني أن الضرر لم يقع إذ طار الطائر ودفع البدل هو تدارك وجبر لذلك الضرر لا أنه منعٌ وحيلولة ورفع من الأساس.
 وأما بالنسبة إلى أن الحديث يدل على الرفع والمنع لا التدارك:- فباعتبار أن لسانه لسان الرفع حيث يقول ( لا ضرر ) فهو يقول إن الضرر ليس بموجود من ناحيتي لا أنه يقول أنه أنا أتدارك الضرر بعد وقوعه.
 إذن اتضحت هذه الأمور الثلاثة وباتضاحها يتجلى الوجه الذي ذكره الشيخ النائيني(قده).
 ويرد عليه:-
 أوّلاً:- صحيح أن الحديث لا يدل على التدارك وإنما يدل على الرفع والمنع ولكن نقول:- لا يبعد أن العرف يرى في هذه الموارد التي يفترض فيها وجود ضمان أنه لا ضرر من الأساس ، يعني بدفع البديل التام من جميع الجهات لا يرى العرف بعده أن الشخص متضرر وإذا قال إني تضررت فنقول له كلا فإنه فإنك قد اعطيت البديل الكامل فأين ضررك ؟! نعم لعله توجد خصوصية في مثال الطائر ولعله في أمثلة أخرى كما لو ضرب شخص السيارة فلا يقال أنه يوجد ضرر ، نعم هو تدارك للضرر بالنظرة الدقيّة وليس رفعاً له ، ولكن بما أن المدار على ما يصدق عليه رفع الضرر ومنعه عرفاً والمفروض أنه هنا بالحكم بالضمان يصدق أنه رافع ومانع للضمان ، فإذن على هذا الأساس لا مانع من تطبيق الحديث والتمسك به بعدما كان التدارك هو رفع بالنظرة العرفية.
 وثانياً:- يمكن أن نترقى ونقول:- إن المورد من موارد الرفع حقيقةً لا أنه رفع عرفاً فقط وذلك باعتبار أن الإنسان إذا أتلِف ماله فسوف يكون له حقّ في نظر العقلاء والعرف - يعني حتى غير المتشرعة يرون أن الذي فتح القفص هو ضامن وأن صاحب الطير هو له حق الضمان على من فتح القفص - وعليه فإذا حكمنا عليه بالضمان فحينئذ نكون قد أعطيناه حقّه ولم نتجاوز عليه وبالتالي يكون المورد من موارد رفع الضرر.
 وبالجملة:- إذا نظرنا إلى هذا الحق العقلائي والعرفي الذي تولّد بسبب فتح القفص مثلاً فبلحاظ هذا الحق يكون تطبيق الحديث من باب الرفع وليس من باب التدارك إذ لا يوجد ضرر بلحاظ هذا الحق ونحن تداركناه بل بتطبيق الحديث حاولنا أن لا نتجاوز على هذا الحق العقلائي والعرفي ، فتطبيق الحديث بلحاظ هذا الحق - أي حق الضمان - يكون رفعاً ولا يكون تداركاً.
 وثالثاً:- إن تطبيق الحديث في بعض الموارد لا يلزم منه تدارك الضرر ويكون أجنبياً عن ذلك رأساً كما هو الحال في المثال الثالث من الامثلة التي ذكرناها سابقاً فإنّا ذكرنا ثلاثة أمثلة والأول منها مثال القفص وما شابهه وهنا قد يأتي ما أفاده الشيخ النائيني(قده) من أن الضمان الحاصل بتطبيق الحديث هو تدارك لا أنه حائل دون الضرر ، والمثال الثاني - أي مثال طلاق الحاكم للزوجة - قد يقال بذلك أيضا كما أراد الشيخ النائيني(قده) لا أن المورد من رفع الضرر رأساً وإن كان في هذا تأمل ولقائل يقول إنه إذا طلق الحاكم بمجرد أن شعرت الزوجة بالضرر فهذا يكون من باب المنع لا من باب التدارك ، ولكن نأتي إلى المثال الثالث وهو عدم حرمة الإضرار بالآخرين فإن الحديث لو شمل عدم حرمة الإضرار بالآخرين فسوف تكون النتيجة هي حرمة الإضرار بهم ومعلومٌ أن حرمة الإضرار بهم ليس حكماً يتدارك به الضرر بل يمنع ويحول دون وقوع الضرر كما هو واضح فيصير المورد من موارد المنع رأساً لا من موارد الرفع ، ويكفينا للنقض على الشيخ النائيني(قده) أن نذكر ولو مورداً واحداً.
 وربما تُسجّل مناقشة رابعة وذلك بأن يقال:- لو فرض أنه لا يمكن إثبات الضمان في حق من فتح باب القفص بحديث لا ضرر لأن المورد من موارد التدارك لا من موارد المنع رأساً ، ولكن نقول:- يمكن إثبات الضمان بقاعدة أخرى وهي قاعدة الاتلاف ( من اتلف مال الغير فهو له ضامن ) ومن باب الجملة المعترضة:- إن قاعدة الإتلاف لم تثبت بدليل لفظي معتبر فلا توجد رواية معتبرة تقول ذلك ولو بالمضمون وإنما المستند المهم لها هو السيرة العقلائية فانها انعقدت على ذلك وحيث لا ردع من قبل الشارع فيثبت الإمضاء - فإذا قبلنا بقاعدة الإتلاف ولو لأجل السيرة فحينئذ يثبت الضمان من خلالها.
 إذن حتى لو كان هناك قصور من ناحية حديث لا ضرر فبالإمكان الاستناد إلى قاعدة الإتلاف لإثبات الضمان ، فربما يسجل هذا كإشكال على الشيخ النائيني(قد) ويقال له:- أنت قلت إنه لا يمكن تطبيق الحديث على الأحكام العدمية لأن لازمه إثبات حكم وجودي وبالتالي يلزم الحكم بالضمان في مثال القفص والحديث لا يدل على ذلك ، ولكن نحن نقول يمكن أن نستند إلى شيء آخر وهو قاعدة الإتلاف.
 والجواب عليه واضح حيث يقال:- إن الشيخ النائيني(قده) لو كان يريد أن يقول إن مستند الحكم بالضمان في الحالة المذكورة هو حديث لا ضرر فقط وأن الفقهاء حكموا بالضمان استناداً إليه والحال هو لا يدلّ على الضمان فتأتي المناقشة المذكورة فيقال له ( من أين لك أن مستند الحكم بالضمان في نظرهم هو حديث لا ضرر بل لعل قاعدة من أتلف ما الغير ) ، أما إذا كان ما يقصده هو أن لازم شمول الحديث للأحكام الضررية هو صحّة الاستناد إليه لإثبات الضمان مضافاً إلى قاعدة الاتلاف - أي يصير حديث لا ضرر دليلاً ثنياً يصلح التمسك به - والحال هو لا يصلح التمسك به فحينئذ لا تتسجل عليه تلك المناقشة ، ولكن الشيخ النائيني(قده) لا يريد أن يقول إن المستند منحصر بحديث لا ضرر.
 إذن اتضح من خلال هذا كله أن هذا الوجه قابل للمناقشة.


[1] رسالة لا ضرر 420.