الموضوع / التنبيه الرابع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
هذا وقد يستدل على ثبوت حق النشر ونحو ذلك وأن التجاوز عليه لا يجوز لا بحديث لا ضرر وانما بالسيرة بتقريب:- إن السرية في زماننا قد انعقدت على ثبوت حق التأليف للمؤلفين وحق النشر لأصحاب دور النشر ... وهكذا ، وعليه فتثبت شرعية هذه الحقوق وعدم جواز التجاوز عليها للسيرة المذكورة بلا حاجة إلى حديث لا ضرر.
والجواب:- إنما تكون السيرة حجّة فيما لو كانت معاصرة لعهد المعصوم عليه السلام حتى يثبت امضاؤها من خلال عدم الردع ، وواضح أن السيرة المذكورة في مقانا على حق التأليف والنشر هي حادثة وجديدة ولم تكن ثابتة في زمن المعصوم حتى تثبت امضاؤها من خلال عدم الردع.
إن قلت:- هذا جيد ولكن إذا بنينا على أن دليل الامضاء يتوجه إلى النكتة الارتكازية وليس إلى العمل الخارجي بحجمه الضيق وقبلنا بذلك كما يقال بذلك في مسألة الحيازة فإن الحيازة التي كانت ثابتة في عهد المعصوم والتي كانت توجب التملك في نظر العقلاء هي حيازة مثل السمك والماء والأعشاب والحطب وما شاكل ذلك أما حيازة المعادن كما هو المتداول في زماننا فلم يكن ذلك موجوداً سابقاً فكيف نثبت أن حيازة مثل المعادن توجب الملكية بعد الالتفات إلى أن مثل هذا النحو من الحيازة لم يكن في زمن المعصوم ، إنه ليس من جواب إلا أن يقال:- صحيح أن السيرة في عهد المعصوم كانت ضيقة ومحدودة بحدود الأعشاب والأسماك وما شاكل ذلك إلا أن النكتة المرتكزة في أذهان الناس في عهد المعصوم هي أوسع من ذلك ، يعني العقلاء يرون أن الحيازة هي موجبة للملكية بما هي حيازة فالنكتة نكتة عامة غايته أن المصاديق التي برزت من تلك النكتة العامة هي مصاديق ضيقة ، وإذا قبلنا أن الامضاء يتوجه إلى النكتة العامة وليس إلى العمل الخارجي فيثبت أن الحيازة بشتى الوانها موجبة للمكية ، فإذا كانت هذه النكتة الارتكازية غير مرضيّة للإمام عليه السلام لردع عن سعتها وشموليتها فسكوته عن ذلك يدل على امضاءه لها بعمومها وعلى سعتها فنقول في مقامنا أن الأمر كذلك ، يعني إن الامضاء يثبت للنكتة الارتكازية وإن لم يكن مثل حق النشر ثابتاً في ذلك الزمن.
قلت:- إن توجيه الامضاء إلى النكتة الارتكازية العامة هو وجيه في حالتين:-
الحالة الأولى:- أن تكون هناك سيرة خارجاً ولكنها في درجة محدودة بيد أن نكتتها نكتة عامة كما مثلنا بمثال الحيازة ، وهذا بخلافه في مقامنا فإنه لا يوجد تجسد للسيرة خارجاً من الأساس - أي للسيرة على حق النشر وحق التأليف - وهكذا لم يكن ذلك حتى بحجم ضيق في زمن المعصوم عليه السلام حتى يقال إن الامضاء لا يختص بمقدار السيرة الخارجية بل يتوجه إلى النكتة العامة . إذن توجيه الامضاء إلى النكتة العامة يتم إذا كانت عندنا سيرة انعقدت بالفعل في زمن المعصوم ولكن في مساحة ضيقة كما في حيازة الأسماك أما إذا لم تكن السيرة منعقدة من الأساس كما في حق النشر والتأليف فلا معنى إذن لتوجيه الامضاء إلى النكتة بعد فرض أنه لا توجد سيرة من الأساس.
الحالة الثانية:- ما إذا فرض أن النكتة لم تتجسد خارجاً رأساً ولو في مجال ضيّق ولكنها كانت سنخ نكتة ثابتة في أذهان العقلاء بشكل قوي بحيث لو لم يردع عنها المعصوم لتجسدت خارجاً بعد فترة ولو بعد عهده فلأجل ثبوتها الواضح في الأذهان والمفروض أنها نكتة غير مقبولة ويحذر من تسربها إلى العمل الخارجي فهنا أيضاً يلزم أن يردع المعصوم ، ومن المعلوم إن مقامنا لا يعلم أنه من ذلك ، أي لا يحرز أن نكتة حقوق الطبع والتأليف كانت نكتة مرتكزة في ذلك الزمن بشكل واضح كلا بل لعلها شيء مغفول عنه لذلك لم يردع الإمام عنه.
إذن اتضح أنه لا يمكن إثبات شرعية حق التأليف والنشر من خلال هذا الطريق.
إن قلت:- إن المعصوم بما أنه معصوم يعرف الغيب ويعرف ماذا سوف يطرأ في المستقبل ويعلم أن هناك دور نشر سوف تحدث بعد ذلك وهناك حق بنى عليه العقلاء لدور النشر ويعرف بأن ذلك سوف يحصل في الخارج فيلزمه من باب أنه منصوب لحفظ الشريعة أن يردع عن تلك السيرة التي تحدث في المستقبل وسكوته عن ذلك وعدم الردع يدل على أنه يمضي تلك السيرة ويقبلها.
قلت:- إن هذا طريق جيد إن ثبت أن الامام عليه السلام منصوب لحفظ الشريعة بلحاظ المستقبل أيضاً - يعني أن الامام الصادق يلزمه أن يحفظ الشريعة في زمانه ويحفظها أيضاً بلحاظ ما بعد زمانه - وهذا شيء لا نجزم به ونحتمل أنه منصوب للحفظ في دائرة زمانه أما ما زاد على ذلك فلم يكن مكلفاً بإعمال غيبياته وبالتالي يردع عنه أو لا يردع . إذن التمسك بهذا الطريق مشكل أيضاً.
ومن خلال هذا اتضح أن ثبوت حق النشر والتأليف وما شاكله يشكل إثباته بقاعدة لا ضرر كما يشكل إثباته من خلال السيرة.
ولكن هذا لا يعني أننا نجوّز لكل أحد أن يطبع ولا يعير أهمية لحقوق النشر والتأليف وما شاكل ذلك بل يلزم مراعاة ذلك من جهة أخرى وهي أنه يلزم من عدم مراعات الأمور المذكورة - ولو في مجال الطباعة والنشر والتأليف وما شاكلها اختلال النظام ، ولأجل أنا نجزم بأن الشارع يريد النظام حتى في هذا المجال فحينئذ لا يجوز التجاوز على هذه الحقوق العقلائية الحادثة فيما إذا استلزم التجاوز عليها المحذور المذكور ، أما إذا فرض بأنا كنا نعيش في بلدٍ لا يلزم منه هذا المحذور كما لو فرض أن أناس ذلك البلد كانوا مهذبين بشكل لا يتجاوزون فيه على طبع كتاب الغير غايته أراد شخص أو اثنين أن يفعلا ذلك فلا يلزم حينئذ اختلال النظام من هذه الناحية فيجوز ذلك لهم شرعاً وإن كان غير مناسب أخلاقياً.
والخلاصة من كل هذا:- إن عدم ثبوت هذا الحق من جهة قاعدة لا ضرر أو من جهة السيرة لا يعني أنه يجوز التجاوز على هذه الحقوق العقلائية المستحدثة بل لحاكم المسلمين أن يمنع بالعنوان الثانوي متى ما رأى أن ذلك العنوان الثانوي سوف يتحقق - أي يلزم اختلال النظام - وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة والأشخاص وما شاكل ذلك.
التنبيه الخامس:- هل حديث لا ضرر يشمل الأحكام العدمية ؟
لا اشكال في أن الحديث شامل للأحكام الوجودية مثل وجوب الوضوء فإنه حكم وجودي فلو تضرر المكلف ارتفع الوجوب بالحديث ، وهكذا وجوب الصوم حكم وجودي فيشمله الحديث في حالة الضرر .... وهكذا وهذا لا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما لو كان الحكم عدميّاً بحيث لو شمله الحديث فسوف يثبت حكم وجودي ونذكر لذلك أمثلة ثلاثة:-
المثال الأول:- عدم الضمان ، فإن عدم الضمان في بعض الموارد يكون ضررياً فهل يمكن أن نطبق الحديث ونثبت بذلك حكم الشارع بالضمان الذي هو حكم وجودي ؟ كمن مسك شخصاً فهربت دابته أو أبق عبده فإنه لو لم يُحكم بالضمان للزم من ذلك تضرر الشخص المذكور فإذا قلنا إن الحديث يشمل عدم الضمان فسوف يرتفع عدم الضمان وبالتالي يثبت الضمان فحصلنا على حكم وجودي وجعل حكم وجودي من خلال تطبيق حديث لا ضرر على الحكم العدمي ، وكمن فتح قفص طائر للغير فطار ، أو فرض أن شخصاً حبس حراً بغير حقٍ وكان ذلك الشخص يعمل بأجرة يومية لو كان طليقاً فهنا يكون عدم الضمان ضررياً فيثبت الضمان من خلال شمول الحديث له.