الموضوع / التنبيه الرابع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
قلنا أنه هل يشمل حديث لا ضرر الاضرار الاعتبارية أو لا ؟
ووجه الاشكال في شمول الحديث لها هو أن شرط التمسك بإطلاق الحديث هو أن يصدق عنوان الضرر ، فمتى ما صدق الضرر جاز التمسك بإطلاق الحديث ، ولكن صدق الضرر في غير مورد الضرر الحقيقي يتوقف على ثبوت ذلك الحق في نظر المشرع فالمشرع إذا كان يرى ثبوت ذلك الحق فالتجاوز عليه يكون ضرراً أما إذا فرض أن المشرع لم يرَ ثبوت ذلك الحق فعنوان الضرر آنذاك لا يصدق في المورد فكيف نتمسك بإطلاق الحديث ؟!
وبكلمة أخرى:- إن شرط التمسك بالإطلاق هو أن نحرز في المرتبة الأولى صدق المفهوم على الموقف أما إذا فرض أنا لم نحرز صدق ذلك العنوان فكيف نتمسك بالإطلاق ؟! نظير ( اعتق رقبة ) فإن التمسك بإطلاقه يصح لو أحرزنا بأن هذا رقبة أما إذا فرضنا أنه كان لدينا طفل في القماط فهل هذا رقبة ويجوز عتقه والاكتفاء بعتقه ؟ والجواب:- لا يجوز التمسك بالإطلاق فإنا لا نحرز أن هذا رقبة بخلاف الكبير إذ الكبير رقبة فنقول حينئذ هذا رقبة والدليل قال ( اعتق رقبة ) من دون أي قيد فيكفي أما بالنسبة إلى الطفل المقمط فلا نحرز أنه رقبة حتى يشمله الإطلاق ، وموردنا من هذا القبيل فأنت تريد أن تتمسك بإطلاق كلمة ( الضرر) فلابد وأن تحرز أن هذا ضرر فإذا كان الضرر حقيقياً فهذا جزماً ضرر حتى عند المشرع وأما إذا كان اعتبارياً وكان المشرع يمضي ذلك الحق العرفي فأيضاً يصدق عنوان الضرر إذا حصل التجاوز على ذلك الحق أما إذا لم ندرِ أنه يمضي ذلك الحق أو لا فكيف يمكن أن نتمسك بالإطلاق ؟!
وعلى هذا الأساس نقول في مقام حلِّ هذه المشكلة:- الأضرار الاعتبارية هي على نحوين:-
النحو الأول:- الحق العرفي الذي يكون التجاوز عليه ضرراً يكون ثابتاً في زمن المعصوم لا أنه من الحقوق العرفية المتجددة والمستحدثة ، ومن هذا القبيل حق السبق في الأماكن العامة فإن من جلس في مكان عام كالمسجد أو السوق كان صاحب حق في زماننا وفي ذلك الزمان فلا نحتمل أن هذا الحق ليس بثابتٍ في زمان المعصوم ، إذن هذا الحق ثابت في زمن المعصوم وما دام ثابتاً فحينئذ يكون التجاوز عليه ضرراً وآنذاك يصح التمسك بالإطلاق بأحد بيانين:-
البيان الأول:- أن نتمسك بالإطلاق اللفظي فنقول:- هذا ضرر جزماً حتى في نظر المشرِّع إذ المفروض أن الحق العرفي ثابت في نظره وإذا كان هذا المورد ضرراً فإطلاق الضرر أو لا ضرر يشمله.
البيان الثاني:- التمسك بالإطلاق المقامي وذلك بأن نقول:- إن المتكلم حيث أنه إنسان عرفي فيقصد من كلمة ( الضرر ) كل ما يصدق عليه عنوان الضرر في نظر العرف ولو كان يقصد معنىً آخر لبيّنه فنثبت الإطلاق المقامي بقطع النظر عن الإطلاق اللفظي . إذن لا توجد مشكلة في هذه الحالة.
وأما إذا فرض أن الحق لم يكن ثابتاً في زمن المشرع - ولعل من هذا القبيل حق التأليف والنشر وغيرهما - فلا يجوز التمسك بالإطلاق لما أشرنا إليه إلّا في حالتين:-
الحالة الأولى:- أن نفترض أن الاعتبار المتأخر - أي الحادث في زمن متأخر عن الشرع - هو سنخ اعتبار وحق يعترف به الجميع ولا يختص الاعتراف به بذلك العرف الضيّق ، إنه مادام الجميع يعترف به ويمضيه فآنذاك ترتفع المشكلة إذ بعد إمضاءه من قبل الجميع بما في ذلك المشرع لو فرضنا ذلك فنتمسك بالإطلاق اللفظي أو المقامي - ولا أقل بالإطلاق الفظي - ولعل من هذا القبيل الأوراق النقدية ، فلو فرض أن جهة رسمية ذات اعتبار اعتبرت هذه الورقة ذات قيمة فحينما تعتبرها ذات قيمة فهذا الاعتبار يكون نافذ المفعول في حق الجميع فالدول الأخرى تتعامل مع هذه الورقة كما تتعامل تلك الجهة المعتبرة فالدينار في زماننا هذا هو نافذ المفعول ومعترف به من قبل جميع الدول رغم أن هذا اعتبار من خصوص هذه الدولة لكن بعد اعتبار هذه الدولة يكون هذا الاعتبار مقبولاً من قبل الجميع ما دامت الجهة مقبولة وليست بضعيفة
[1]
، إنه في هذه الحالة لو فرض أن شخصاً عنده دنانير وسرقها منه شخص آخر فلابد وأن يحكم الشرع هنا بالضمان وبحرمة التجاوز وإلّا لزم الضرر ، وهنا لا تأتي الشبهة - وهي أن صدق الضرر فرع ثبوت الحق والاعتبار والمفروض أن هذا الحق والاعتبار ثابت في نظر هذه الشريحة المعيّنة وليس بثابت في نظر الشرع - لأنّا فرضنا أن هذا الاعتبار متى ما تحقق كان نافذاً في حق الجميع ومقبول لديهم وإذا فرضناه مقبولاً في نظر الجميع فيلزم صدق الضرر في نظر الجميع وبالتالي يصح التمسك بالإطلاق بلا مانع.
الحالة الثانية:- إذا فرض أنا بنينا على أن حديث لا ضرر ناظر إلى كل ما صدق عليه ضرر في نظر العقلاء ولو شريحة منهم فبلحاظ تلك الشريحة يمكن تطبيق الحديث كما هو الحال في مثل ( أوفوا بالعقود ) فإنه شامل لكل عقد ، فلو فرضنا أن عقداً جرى بين اثنين وكان هذا العقد متعارفاً في مكان ودولة معيّنة كعقد التأمين على الحياة أو على إصابة السيارة ببعض الأمور فإن هذا العقد متى ما كان عقداً في نظر هذا المجتمع وفي نظر عقلاء هذا المكان ومتعارفاً بينهم فتأتي آية ( أوفوا بالعقود ) وتشمله ، فكل عقد صدق عليه أنه عقد في نظر العقلاء ولو بعد زمان الشارع كعقد التأمين فإنه لم يكن في ذلك الزمن ولكن ما دام صار شيئاً متعارفاً في هذا المكان وهو عقد الآن فيشمله ( أوفوا بالعقود ) فإن قوله ( أوفوا بالعقود ) له الصلاحية للشمول لكل عقد عقلائي وإن لم يكن موجوداً في زمن الشريعة . إن هذه المقالة التي نقولها في ( أوفوا بالعقود ) لو قلنا بنظيرها في ( لا ضرر ) فحينئذ يصح التمسك بالإطلاق ، وعليه فتصير النتيجة هي أن كل ما صدق عليه الضرر في نظر العقلاء ولو في غير زمان الشرع والشريعة بل ولو في نظر مجموعة من العقلاء كفى ذلك للتمسك بإطلاق الحديث.
ولكن هذا شيء قابل للإشكال:- والوجه في ذلك هو أن قوله ( أوفوا بالعقود ) ناظر إلى وجوب الوفاء إلى كل ما يصدق عليه العقد ولم يقيَّد العقد بكونه عقداً في زمن الشريعة فالتمسك بالإطلاق شيء وجيه ، وهذا بخلافه في حديث لا ضرر فإن صدق الضرر في الأضرار الاعتبارية فرع ثبوت ذلك الحق الاعتباري في نظر المتكلم وصاحب الشرع الذي قال ( لا ضرر ) فإذا ثبت ذلك الحق فحينئذ يصدق عنوان الضرر ، أما إذا فرض أنه لم يثبت أن صاحب الشرع معترف بهذا الحق وممضٍ له فكيف نتمسك بالإطلاق آنذاك ؟!
إلا أن تقول:- إن حديث لا ضرر يريد أن يقول ( كل ما صدق عليه ضرر ولو في نظركم وليس في نظري فالحكم يكون مرتفعاً ) والتقييد بأن ( يصدق عنوان الضرر في نظري ) أي أنا الشرع - يحتاج إلى بيان فنتمسك بالإطلاق.
ولكن يمكن أن يرد ذلك وذلك بأن يقال:- إن حديث لا ضرر في مقام البيان من ناحية الأحكام ، فهو ناظر إلى الأحكام ويقول ( كل حكم يرتفع في حالة الضرر ) فالإطلاق يصح التمسك به بلحاظ الأحكام ، وأما بلحاظ الضرر فهو ليس في مقام البيان حتى يتمسك بالإطلاق من الناحية المذكورة والتمسك بالإطلاق لا يجوز إلا بلحاظ الجهة التي يكون البيان ثابتاً بلحاظها ولا ضرر ناظر إلى الأحكام فهو يقول ( كل حكم في حالة الضرر مرتفع ) فهو في مقام البيان من ناحية الحكم فيصح التمسك بالإطلاق وأما ناحية الضرر وأنه أي ضرر حتى يرتفع به الحكم ؟ فهو ليس بصدد البيان من ناحيته فينبغي التمسك بالقدر وهو الضرر الحقيقي أو الاعتباري الذي يكون الحق بلحاظه ثابتاً في زمن الشرع وأما الذي لم يثبت إمضاء الحق فيه فالتمسك بالإطلاق بلحاظه يكون مشكلاً.
إذن تمام النكتة هنا:- وهي أنه يوجد فارق بين ( أوفوا بالعقود ) وبين ( لا ضرر ) فـ( أوفوا بالعقود ) ناظرة العقود فكل عقد يجب الوفاء به ، وحديث ( لا ضرر ) ناظر إلى كل حكم فكل حكم يكون مرتفعاً في حالة الضرر ، أما أي ضرر هو ؟ فهو ليس في مقام البيان من ناحيته فنتمسك بالقدر المتيقن وهو ما أشرنا إليه.
[1]
ومن ناقش في هذا المثال فنبحث عن مثال ثانٍ.