الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

34/02/01

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / نهاية التنبيه الثالث ، التنبيه الرابع / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 بقي شيء:- ذكر الشيخ العراقي(قده) في كلامه المتقدم أن الفقهاء تمسكوا بحديث لا ضرر ليس إلا من باب التبرك وكواجهة وإلا فالدليل شيء آخر حقيقةً ثم مثل لذلك بقاعدة الحليّة فإن المستند الحقيقي للحلّ ليس هو قاعدة الحلّ وإنما هو إما أصالة الصحة أو اليد أو الاستصحاب كما في الأمثلة التي ذكرت في رواية عبد الله بن سنان التي تشير إلى قاعدة الحلّ حيث قالت ( مثل الزوجة عندك وتحتمل أنها أختك من الرضاعة).
 ونحن هنا نقول:- إن أصل ما أفاده(قده) في البداية من الدعوى - أعني أن الفقهاء تمسكوا بحديث لا ضرر ليس إلا من باب التبرك وكواجهة وإنما الدليل الحقيقي هو شيء آخر غير حديث لا ضرر - هو شيء ركيك في حدِّ نفسه إذ لا معنى لأن نقول إن الفقيه يتمسك بهذا الدليل من باب التبرك وإلا فإن له أدلة أخرى هي الأدلة حقيقيةً إنه شيء ركيك وغريب في حدِّ نفسه ، ولماذا ؟ إنها طريقة مرفوضة وليست عقلائية فإنه إذا كان عندك دليل واقعاً وحقيقة غير حديث لا ضرر فاجعل المستند هو ذلك الدليل لا أنك تذكر حديث لا ضرر في الواجهة وتقول هو للتبرك.
 وأما ما استشهد به من أن الإمام عليه السلام في رواية ابن سنان تمسك بأصالة الحلّ وقال ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) ثم ذكر عليه السلام بعض الأمثلة ومنها الزوجة التي تحتمل أنها ارتضعت معك أو العبد الذي تحتمل أنه أخِذ قسراً وهو حر حقيقةً بتوجيه أنه في هذه الموارد توجد مستندات أخرى وهي بالنسبة إلى الرضاع يوجد استصحاب عدم تحقق الرضاع معه فالرضاع شيء مشكوك مسبوق بالعدم فنستصحب عدم تحقق هذا العنوان ، وفي مثال العبد نجري أصالة الصحة في عمل المسلم فإن البائع مسلم وأن ظاهر حاله الصحة وأنه لا يفعل الحرام.
 وتوجد تتمة منّي:- وهي أنه رب قائل يقول:- لعل الإمام عليه السلام تمسك بقاعدة الحل من باب أنها دليل آخر إلى جنب الاستصحاب أو أصالة الصحة فيوجد دليلان أشار الإمام إلى أحدهما - وهو أصالة الحل - ولا يلزم على المستدل إلى أن يشير إلى كل الأدلة بل تكفيه الإشارة إلى دليل واحد.
 فإذا قلنا هكذا للشيخ العراقي أجاب قائلاً:- إنا قرأنا في علم الأصول أن استصحاب عدم الرضاع يكون حاكماً على أصالة الحلّ فإن الاستصحاب أصل محرز والأصول المحرزة مقدَّمة على الأصول البحتة فلا يمكن أن تقول يوجد دليلان والإمام عليه السلام تمسك بهما بل يتعين أن يتمسك بالاستصحاب إذ بعد كون الاستصحاب حاكماً لا تصل النوبة إلى أصالة الحل . إذن الامام تمسك بأصالة الحلّ لا من باب أنها قاعدة مستقلة بل من باب التبرك ، هكذا أراد الشيخ العراقي أن يقول.
 ونحن في مقام التعليق على هذا نقول:- لماذا لا نقول إن تمسك الإمام عليه السلام بأصالة الحل يدل على أن صناعتنا الأصولية في هذا المورد بالخصوص باطلة ومخدوشة - يعني إن دعوى الأصوليين بأنه مع جريان الاستصحاب الذي هو أصل محرز لا تصل النوبة إلى الأصول البحتة مثل أصالة الحلّ وأن الاستصحاب أصل محرز فهو مقدم عند اجتماعه مع الأصول البحتة - فتمسك الإمام عليه السلام بأصالة الحل يكشف بأن ما ذكره الفقهاء في هذا المورد شيء مرفوض عنده بل يمكن أن يجري الأصل البحت مع وجود الاستصحاب إذ ما المانع من أن نلتزم بهذا ؟ إذن ما قاله الشيخ العراقي(قده) مخدوش باعتبار أن ما ذكره لا يمكن الركون إليه بعد وجود هذا الاحتمال الذي أشرنا إليه.
 ويمكن إذا فرض أنه لم نرتضِ هذا الاحتمال وكانت الصناعة الأصولية مُحكّمة عندنا ومقبولة جداً فيمكن أن نقول شيئاً آخر:- وهو أن تقديم الإمام عليه السلام لأصالة الحلية على الاستصحاب يكشف عن تخصيص دليل الاستصحاب في موارد وجود أصالة الحلّ وأن أصالة الحلّ مخصِّصة لدليل الاستصحاب فإن دليل الاستصحاب ليس حكماً عقلياً حتى لا يقبل التخصيص بل هو حكم نقلي شرعي فيمكن للشارع أن يخصصه ويقول ( الاستصحاب حجة في كل مورد إلّا في موارد وجود أصالة الحل ) فيوجد تخصيص في نفس دليل حجية الاستصحاب.
 وفرق هذا الجواب عن سابقه:- هو أنه في السابق كنا نقول إن الاستصحاب جارٍ في حدِّ نفسه وأصالة الحل جارية في حدِّ نفسها لا أن الاستصحاب هو الذي يجري دون أصاله الحل - يعني أن فكرة الحكومة فكرة مرفوضة - بينما في هذا الجواب نفترض أن الاستصحاب ليس قابلا للجريان في حدِّ نفسه لطروّ تخصيصٍ في دليله فهو في حدِّ نفسه مُخصَّص بموار أصالة الحل.
 والخلاصة:- يمكننا الدفاع عن أصالة الحل بأحد هذين الجوابين الذين أشرنا اليهما ولا يتعين ما أراده الشيخ العراقي(قده).
 نعم هناك معنىً آخر لعدم استقلالية حديث لا ضرر غير ما أشار إليه(قده) - وهذا الكلام الذي سنذكره في حديث لا ضرر يأتي في مثل قاعدة نفي العسر والحرج - وحاصله أن يقال:- أن حديث لا ضرر لا يريد أن يجعل قاعدة بل هو مشير إلى أن كل الأحكام التي شرّعها الإسلام مختصة بحالة عدم الضرر ، فالحكم بوجوب الوضوء مختص بحالة عدم الضرر والحكم بوجوب الشيء الآخر مختص بحالة عدم الضرر ..... وهكذا فالحكم الشرعي الحقيقي هو أن تلك الأدلة الأولية هي ضيقة في حدِّ نفسها ولا تشمل حالة الضرر وجاء حديث لا ضرر ليشير إلى ضيق تلك الأحكام الأولية لا أنه يريد أن يذكر مطلباً تأسيسياً وثابتاً في حدِّ نفسه بحيث نستنبط منه أحكاماً كلا بل المقصود الحقيقي منه ليس إلّا الإشارة إلى ما ذكرناه.
 ونفس هذا الشيء يأتي في قاعدة ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) المعبّر عنها بـ( قاعدة نفي الحرج ) فيمكن لأحد أن يقول هي ليست قاعدة مستقلة تستنبط منها أحكام وإنما هي مشيرة إلى أن الأحكام الصادرة من الشرع هي ضيقة ولا تشمل حالة الحرج ، فهي غير مستقلة بهذا المعنى - أي بمعنى أنها مشيرة إلى ضيق الأحكام الأولية لا أنها قاعدة مستقلة بنفسها - إن عدم الاستقلالية بهذا المعنى شيء وجيه وأما بالمعنى الذي ذكره(قده) وهو أن يكون الدليل الحقيقي شيء وحديث لا ضرر يذكر في الواجهة من باب التبرك إنه شيء لا معنى له في حدِّ نفسه.
 التنبيه الرابع:- هل الحديث يشمل الضرر الاعتباري ؟
 إن الضرر على نحوين فتارة يكون حقيقياً وأخرى يكون اعتبارياً ، أما الحقيقي فهو كمثال الوضوء فإن المريض إذا توضأ أصابه الشدّة في المرض والألم وهذا ضرر حقيقي ملموس ، وأما الضرر الاعتباري فهو كحق الطبع والنشر والتأليف في زماننا فإن من طبع أو ألف كتاباً لا يحق لغيره أن يطبعه من دون كسب الاجازة منه ولو طبعه الآخر تضرر الأوّل - أي صاحب المطبعة مثلاً - ولكن هذا التضرر ليس حقيقياً فهو سالم وعرضه سالم نعم هو ضرر اعتباري بمعنى أن العرف أو العقلاء يعتبرون له حقاً وهو انحصار الطبع به وأنه من حقّه فباعتبار هذا الحق الذي اعتبره له العقلاء والعرف يقال هو متضرر فتضرره إذن هو باعتبار هذا الحق الذي اثبته له العقلاء وبالتالي يكون هذا التضرر اعتباري وليس حقيقياً ، ومن أمثلة ذلك أيضاً من سبق إلى مكانٍ في المسجد مثلاً وجلس فهنا لا يجوز لأحدٍ مزاحمته والدليل على ذلك هو سيرة العقلاء والمسلمين والمتشرعة على ذلك فإنها جرت على أنه لا يجوز لأحد مزاحة آخر وهذا دليل جيد على ثبوت الحق في السبق إلى لمكان ، ولكن هل يمكن أن نستدل بدليل أخر وهو قاعدة لا ضرر وذلك بأن نقول:- إنه حينما سبق وجلس في هذا المكان تولّد له حق في نظر العقلاء والعرف وسلب هذا الحق منه هو ادخال للضرر عليه فيتمسك بقاعدة لا ضرر ، وهذا التضرر اعتباري وليس حقيقياً والقدر المتيقن من حديث لا ضرر هو شموله الأضرار الحقيقية والكلام هو:- هل يشمل حديث لا ضرر الأضرار الاعتبارية أو لا ؟