الموضوع / التنبيه الثالث / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
التنبيه الثالث:- هل أن لا ضرر قاعدة مستقلة ؟
ذكرنا في التنبيه الأول أنه قد أشكل على قاعدة لا ضرر بمحذور كثرة التخصيص ، وفي التنبيه الثاني أشرنا إلى وجه المناسبة بين لا ضرر وبين قلع نخلة سمرة فإن في قلعها ضرر عليه فكيف يعلل قلعها بحديث لا ضرر ؟ وفي هذا التنبيه نريد أن نشير إلى مطلب لعل أول من أشار إليه فيما نعلم الشيخ العراقي(قده)
[1]
وحاصله:- إن قاعدة لا ضرر هل هي قاعدة مستقلة بنفسها وبرأسها ومنها نستنبط أحكاماً أو أن الأحكام في مورد لا ضرر ثابتة بأدلة أخرى يستند إليها الفقيه وإن قاعدة لا ضرر هي واجهة لا أكثر أو هي مجرد تبرك - إن صح التعبير - ؟ ويمكن أن يشبَّه ذلك ويقاس بقاعدة الحليّة
( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) فإن هذه قاعدة ذكرت في الروايات - أي رواية عبد الله بن سنان - واستند إليها الفقهاء والحال أنها ليست بقاعدة أساسية وإنما هنالك أدلة أخرى هي المستند إما الاستصحاب أو اليد أو أصالة الصحة ، فمثلاً الامام عليه السلام في نفس الرواية المتضمنة لقاعدة الحليّة ضرب أمثلة قال ( وذلك من قبيل العبد عندك ولعله حرّ قد خُدِع أو أجبِر ) فالإمام عليه السلام قد طبق قاعدة الحلّ هنا وقال بأنه لا تعتنى بهذا الاحتمال فان كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ، وهكذا ( المرأة تكون تحتك ولعلها أختك من الرضاع ) إلى غير ذلك من الأمثلة فإنه في هذين المثالين يوجد مستند آخر للحليّة قبل أن تصل النوبة إلى قاعدة الحليّة ، ففي مثال الزوجة يجري استصحاب عدم تحقق الرضاع بينه وبينها فإنه يشك هل تحققت علقة الرضاع بينهما أو لا ؟ ففي البداية لم يتحقق الرضاع فهي عند ولادتها لم تكن ترضع معه في ثدي واحد فالحالة السابقة هي العدم فنستصحب ذلك العدم النعتي - الذي هو بعد الولادة - فيجري استصحاب عدم تحقق الرضاع بينه وبينها بلا حاجة إلى قاعدة الحلّ ، وهكذا في مثال العبد فإنه يمكن إثبات صحة البيع إما بأصالة الصحة أو بقاعدة اليد فإن هذا صاحب يدٍ . إذن توجد مستندات أخرى قبل أن تصل النوبة إلى أصالة الحلّ وهي حاكمة على أصالة الحلّ ، يعني لا يمكن أن تكون أصالة الحلّ وتلك المستندات في عرض واحد وجاريتين معاً فانه مع وجود تلك المستندات لا تصل النوبة إلى أصالة الحلّ فان أصالة الصحة مثلاً أمارة مقدّمة على الأصول العملية كأصالة الحلّ ، وهكذا استصحاب عدم تحقق الرضاع مقدم على أصالة الحلّ . إذن توجد مستندات أخرى فهي ليست قاعدة أساسية ومستقلة برأسها وإنما تذكر من باب التبرك أو كواجهة يستعين بها الفقيه.
ونفس هذا الكلام يأتي في قاعدة لا ضرر فيمكن أن نقول بأنها ليست قاعدة مستقلة وإنما هناك مستندات أخرى يستند إليها الفقهاء في مورد لا ضرر واستعانتهم بقاعدة لا ضرر هو من باب التبرك أو كواجهةٍ لا أكثر.
ثم قال:- ولهذا نجد أن النتيجة التي يخرج بها الفقيه في موارد تمسكه بهذه القاعدة إما أن يكون أعم من لا ضر أو أخص منها لا أنها مساوية لها الأمر الذي يكشف عن أن المستند الحقيقي ليس هو قاعدة لا ضرر وإلّا كانت النتيجة مساوية لها.
وهذا كله مجرد دعوى منه(قده) ويحتاج إلى مثبتات ، وقد ذكر في هذا المجال أربعة موارد كمثبتات لما ادعاه ، ونحن نذكر هذه الموارد الأربعة بشكل اجمالي في البداية وبعد ذلك نأخذ بتفصيلها وتوضيحها:-
المورد الأول:- العبادات الضررية كالوضوء الضرري ، فإن الفقهاء تمسكوا لرفع وجوب الوضوء في مورد الضرر بحديث لا ضرر والحال أن مستندهم الواقعي هو دخول المورد في مسألة اجتماع الأمر والنهي والاستعانة بحديث لا ضرر ليس إلا لمجرد التبرك ، أمّا من أين هذا ؟ ذكر شواهد ثلاثة على ذلك.
المورد الثاني :- باب الخيارات ، فانهم استدلوا على خيار تبعّض الصفقة وهكذا خيار الغبن وخيار العيب بحديث لا ضرر وقالوا إنه يثبت الخيار للمغبون وإلا لزم الضرر وحديث لا ضرر ينفي الحكم الضرري ، ومستندهم ليس ذلك وإنما هو التسالم الفقهي بين الفقهاء إذ يوجد تسالم بينهم على أن الخيار ثابت في حالة تبعّض الصفقة والغبن العيب وذلك التسالم يجعلهم يقولون بثبوت الخيار في هذه الموارد والاستعانة بقاعدة لا ضرر مجرد واجهة علمية لا أكثر أو بهدف التبرك.
المورد الثالث:- الزوجة إذا غاب عنها زوجها لفترة طويلة وانقطعت أخباره ولا يوجد من ينفق عليها ولا تتمكن من الصبر فإنهم قالوا بثبوت الولاية للحاكم الشرعي في الطلاق استناداً إلى حديث لا ضرر ، وفي هذا المورد ليس المستند الحقيقي هو قاعدة لا ضرر وإنما هو شيء آخر كالروايات مثلا.
المورد الرابع:- باب مورد تعارض الضررين ، كمن أراد أن يحفر بالوعة في داره وكان ذلك يسبب ضرراً على الجار ففي هذا المورد يلزم تعارض الضررين فصاحب الدار اذا لم يحفر البالوعة سوف يتضرر وإذا حفرها فسوف يتضرر الجار وقد تمسك الفقهاء هناك بقاعدة لا ضرر لإثبات الأحقيّة لصاحب الدار مثلاً والحال أن هذا مورد تعارض الضررين وفي مورد تعارضها لا يمكن التمسك بحديث لا ضرر لوجود تعارضٍ . إذن لابد من وجود مستند آخر.
وقال(قده) في هذا المجال ( وحينئذ لا غرو في دعوى كون هذه القاعدة سيقت للحكاية عن نفي الأحكام الضررية بجهات أخرى
[2]
ثابتة من الخارج من دون كونها
[3]
انشاءً مستقلاً في قبال سائر القواعد فكان وزان هذه العمومات وزان عموم كل شيء لك حلال في رواية مسعدة المشتمل ذيلها على مورد اليد أو الاستصحاب أو أصالة الصحة الحاكمة جميعها على قاعدة الحليّة .. )
[4]
. هذا ما أفاده (قده) باختصار.
ونحن في هذا التنبيه نتعرض إلى الموردين الأوّلين فقط ، وأما المورد الثالث والرابع فسوف نعقد لكل منهما تنبيهاً مستقلاً:-
المورد الأول:- ما شرنا إليه ، وهو أن الفقهاء قد تمسكوا بحيث لا ضرر في باب العبادات الضررية كالوضوء الضرري وقالوا بعدم الوضوء في حالة الضرر لأجل حديث لا ضرر ، ولكن المستند الحقيقي هو دخول المورد في اجتماع الأمر والنهي إذ يوجد أمر ويوجد نهي فباعتبار عنوان الوضوء يوجد أمر وباعتبار عنوان الضرر يوجد نهي عن هذا الوضوء لأنه ضرري ، إذن الوضوء الضرري هو مجمع للأمر والنهي ، وحيث أن رأيهم في هذه المسألة تقديم جانب النفي فحكموا لأجل ذلك بسقوط وجوب الوضوء ، ولكن من أين هذا ؟ قال:- لي شواهد ثلاثة على ذلك:-
الشاهد الأول:- لو كان المستند لهم حقاً هو حديث لا ضرر فمن المناسب أن يحكموا بعدم وجوب الوضوء فقط من دون أن يضمّوا اليه الحكم بالبطلان والحال أنهم قالوا لو توضأ المكلف وهو عالم بالضرر كان وضوؤه باطلاً وهذا يدل على أن المستند ليس هو حديث لا ضرر إذ أنه امتناني ومقتضى المنّة رفع الوجوب فقط لا رفع الملاك فإن رفع الملاك خلاف المنّة أو لا اقل لا تقتضيه المنَّة ، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون مستندهم هو حديث لا ضرر فإنه لو كان هذا هو المستند لكان المناسب هو الحكم بعدم وجوب الوضوء من دون ضم البطلان إليه والحال أنهم حكموا بنفي الوجوب وبالبطلان معا لو توضأ وهو عالم . إذن لابد وأن يكون المستند هو اجتماع الأمر النهي فإنه إذا قُدِّم النهي يكون الأمر ساقطاً فلا وجوب كما أن المناسب الحكم بالبطلان لفرض تقديم النهي فيكون هناك نهي عن هذه العبادة والنهي عن العبادة مفسد لها. هذا ما افاده (قده) في هذا الشاهد الأول في المورد الأول.
ويرد على الشاهد:-
أوّلاً:- من الوجيه أن يدّعى أن الفقهاء كان لهم مستندان في المقام لنفي الوجوب أحدهما دخول المسألة في اجتماع الأمر والنهي والآخر حديث لا ضرر وقد استندوا إلى هذين لنفي الوجوب وما أكثر الأدلة المتعددة العرضيّة في المورد الواحد فيستدل على مطلبٍ واحد بأدلةٍ متعددةٍ ، أي نقول:- يوجد لهما مستندان عرضيان يثبتان في عرض واحد نفي الوجوب غايته أن أحدهما يمكن أن يستفاد منه فائدة إضافية وهي أن الوضوء باطل لو تحقق من المكلف فإن ذلك يقتضيه الدليل الأول - أي دخول المسألة في اجتماع الأمر والنهي - ولا يقتضيه الدليل الثاني - أي حديث لا ضرر - وما المانع من ذلك؟ وعلى أساسه يكون الفقهاء قد استندوا إلى حديث لا ضرر لنفي الوجوب ، وإذا قلت:- اذا كان هو مستندهم فكيف حكموا بالبطلان ؟ قلت:- إنهم حكموا بذلك لأجل المستند الآخر لا أنهم استفادوه من لا ضرر حتى تقول أنه لا يدل على نفي الملاك ولا يثبت البطلان - هذا تمتشيّاً معه بأنه لا يثبت البطلان -.
[1]
مقالات الاصول 2 312.
[2]
اي مستندات أخرى موجودة والا فالمستند الحقيقي ليس هو قاعدة لا ضرر
[3]
اي قاعدة لا ضرر وكونها قاعدة مستقلة.
[4]
المقالات 2 11.