الموضوع / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وقد نوقش الفاضل التوني بمناقشتين:-
المناقشة الأولى:- وهي للسيد الخوئي(قده)
[1]
وحاصلها:- إنه بناءً على رأي الفاضل التوني تكون كمة الضرر مقيّدة بقيدٍ وهو ( غير متدارك ) إذ هو يقول إن المقصود هو ( لا ضرر غير متدارك ) فكلمة الضرر مقيّدة بهذا القيد ، إذن يوجد تقييد - أو بالأحرى يوجد تقدير والتقدير خلاف الظاهر - وهو خلاف الظاهر فان الظاهر يقتضي الإطلاق فتقييد الضرر بغير المتدارك مخالف للظهور في الإطلاق.
وفيه:- إن ما أفاده يكون وجيهاً لو كان الفاضل التوني يقدّر هذه الفقرة ولكن من حقه أن يدافع عن نفسه ويقول:- أنا لم أقدّر هذه الفقرة وإنما أقول إن حكم الشارع بالتدارك هو الذي يكون مصحّحاً لنفي الضرر فالضرر إنما نفي رغم أنه قد وقع باعتبار أن الشارع قد حكم بتداركه والذي أدعيه هو أن حكم الشارع بالتدارك هو المصحح لنفي الضرر لا أن نقدّر فقرة ( غير متدارك ).
المناقشة الثانية:- وهي ما أشار إليه الشيخ الأعظم
[2]
وحاصلها:- إن المصحح لنفي الضرر ليس مجرد حكم الشارع بالتدارك وإنما هو التدارك الفعلي بمعنى أن الشخص حينما يتضرر سوف يُدفع له بالفعل مقدار التدارك وعند حصول هذا التدارك الفعلي يصح أن يُنزَّل الضرر منزلة العدم أما مجرد أن الشارع قد حكم بلزوم التدارك من دون أن يُدفَع إليه فعلاً فهذا الضرر لا يصح تنزيله منزلة العدم.
ولكن قد يدافع عن الفاضل التوني فيقال:- صحيح أن مجرد الحكم شرع بالتدارك لا يكفي لتنزيل الضرر منزلة العدم ولكن إذا فرض أن الشارع قد حكم بالتدارك وكلّف القوّة الإجرائية - والمقصود منها الدولة التي تسيِّر على ضوء ما يقرر الشرع - بالدفع أو فرض أنه كلّف القوَّة الإجرائية بأن تطالب الشخص الذي أدخل الضرر وتأخذ منه مقدار التدارك وتدفعه للمتضرر فيصح حينئذ من زاويته أن ينزِّل الضرر منزلة العدم فانه من زاويته قد شرَّع القوَّة المنفِّذة لا أنه حكم بالتدارك فقط من دون تطبيقٍ بل شرَّع القوة المنفِّذة فيصح في نظره أن ينزِّل الضرر منزلة العدم.
اللهم إلا أن يدافع الشيخ الأعظم ويقول:- صحيح أن الشارع قد حكم بالتدارك وجعل قوَّة منفِّذة إجرائية أيضاً ولكن نقول هذا وحده لا يكفي بل يلزم أن تكون القوَّة الإجرائية مبسوطة اليد وتنفِّذ ما يريده الشرع بالفعل ولا يكفي أنه شرَّعها فقط من دون أن تكون مبسوطة اليد كما هو الحال في واقعنا فانه كذلك فان الله عز وجل قد شرَّع القوة الإجرائية وهي دولة الامام عليه السلام وجعلها هي التي تقوم بهذه الأعمال ولكن هي ليست مبسوطة اليد وقيل لها ( إنه يهجر ) فلم تكن القوَّة الإجرائية التي أرادها الشرع مبسوطة اليد ومادامت لم تكن مبسوطة اليد فلا يكفي ذلك لنفي الضرر وتنزيله منزلة العدم.
وسواء صحّ هذا الدفاع أم لم يصح نقول إن المناسب مناقشة الفاضل التوني بمناقشة جديدة أخرى غير ما أفاده العلمان وحاصلها:- إنه يوجد لدينا احتمالان في تفسير حديث لا ضرر أحدهما ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) والآخر ما أفاده الفاضل التوني(قده) وهذا معناه أن الحديث سوف يصير مردداً بين الاحتمالين فنقول للفاضل التوني إن ما ذكرته مجرد احتمال ولا يوجد له مثبت بحيث يثبت ما تقوله وينفي ما ذكره الشيخ الأعظم وانما هو احتمال لا يرتقي إلى مستوى الظهور بل يوجد مرجح لما ذكره الشيخ الأعظم في مقابل ما ذكرته فان ما ذكره الشيخ الأعظم لا يلزم منه إعمال عناية بينما ما ذكرته يلزم منه عناية حيث نُزِّل وجود الضرر منزلة العدم باعتبار الحكم بالتدارك وهذه العناية لا مثبت لها.
وعليه فما ذكرته أيها الفاضل التوني يرد عليه:-
أوّلاً:- إنه مجرد احتمال دون أن يكون له مثبت في مقابل ما ذكره الشيخ الأعظم ومجرد التفسير على مستوى الاحتمال لا يساعده الظهور ليس أمراً فنيّاً وإنما المناسب هو أن يوجد له مثبت كالظهور مثلاً.
وثانياً:-
أن يقال:- يوجد ما يدل على مرجوحيته حيث أنه يحتاج إلى عناية - أي تنزيل الوجود منزلة العدم باعتبار التدارك - وهي لا مثبت لها وهذا بخلاف ما ذكره الشيخ الأعظم فإنه لم يذكر مطلباً يحتاج إلى عناية بل ذكر مطلباً يتساير مع الظهور فإن ظاهر لا النافية للجنس هو نفي الوجود الخارجي فحينما نقول ( لا رجل ) فالمقصود هو أنه ( لا رجل خارجاً ) ، وهو(قده) قد التزم بهذا فقال إن المقصود هو نفي الضرر في الخارج غايته أنا أقيّد هذا الضـرر بتقييـد وهـو ( لا ضرر ينشا خارجاً من جهة أحكامي الشرعية ) فهو يعمل هذا التقييد لا أكثر وهذا التقييد ليس فيه عناية إما باعتبار أنه لمّا كان ظاهر لا النافية للجنس هو نفي الوجود الخارجي فما يترتب على هذا الظهور والأخذ به يكون بالتالي عملاً على وفق الظهور فالشارع حينما نفى الوجود الخارجي للضرر والمفروض أن شأنه ليس هو الإخبار بل الانشـاء فـلابد وأن يكـون المقصـود ( أنه لا ضرر خارجاً من ناحيتي الشرعية ) فهذا تقييد تستتبعه أو يستلزمه ذلك الظهور - أي الظهور في نفي الوجود الخارجي - فلا يكون هذا التقييد ذا عناية وبحاجة إلى قرينة.
أو يقال:- إن التقييد بهذا المقدار لابد منه حتى على رأي الفاضل التوني ، فحينما قال الفاضل التوني إن المقصود هو ( لا ضرر غير متدارك ) فالمقصود هو ( لا ضرر غير متدارك في تعاليم الاسلام وأحكامه ) فإن التدارك تدارك من زاوية الأحكام الشرعية لا أنه لا ضرر خارجاً.
بل يمكن أن نصعِّد اللهجة مع الفاضل التوني ونقول:- مضافاً إلى ما ذكرنا - من أن التنزيل منزلة العدم هو عناية تحتاج إلى مثبت يرد عليك:-
أولاً:- إذا رجعنا إلى قضية سمرة التي ورد فيها هذا الحديث لم يكن فيها ضرر الأنصاري متداركاً - أي لم يقل شخص للأنصاري إن ضررك متدارك بإعطائك كذا مقدار أو غير ذلك - بل حاول النبي صلى الله عليه وآله أن يحول دون تحقق الضرر لا أنه تداركه فليس هناك تدارك بل هناك حيلولة دون تحققه أو استدامته.
وثانياً:- إن الالتزام بأن كل ضرر متدارك من قبل الدولة أو الامام شيء لا يمكن الالتزام به بعرضه العريض فلو فرض أن شخصاً كان يسير فعثر فكسرت رجله فهل يوجد من يلتزم بأن يذهب إلى الدولة ويطالب بتدارك الضرر ؟! فهذا التدارك بعرضه العريض مجرد فرضيات لا يمكن الالتزام بها . إذن ليس من الصحيح أن نقول إن كل ضرر متدارك - إما من قبل الشخص إن كان ضرراً شخصياً أو من قبل الدولة إن لم يكن مسبّباً من قبل شخص إذ أن هذه قضية لا يمكن أن يلتزم بها أحد.
وثالثاً:- حتى لو فرض أن كل ضرر كان متداركاً ولكن هذا لا يعيني أن الشخص لم يتضرر حقيقة فتدارك الضرر لا يعني أن الشخص لم يتضـرر بحيث يمكـن أن يقـال لـه ( أنت لم تتضرر ) وصار الضرر كلا ضرر . وعلى هذا فلا يصير هذا مصحّحاً لنفي الضرر وهو شيء لا يمكن أن يرتضيه العرف بل الضرر موجود غاية الأمر أن هذا نحو من الجبران الجزئي لا أنه يصح به تنزيل الضرر منزلة العدم ، وبهذا كله اتضح أن الأنسب هو ما صار إليه الشيخ الأعظم(قده) في تفسير الحديث.
[1]
مصباح الاصول 2- 529 ط قديمة.
[2]
رسالة لا ضرر 114.