الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/11/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 مناقشة النهي السلطاني:- ذكرنا أن السيد الخميني(قده) قال إن حديث لا ضرر يدل على النهي كما قال شيخ الشريعة خلافاً للشيخ الأعظم ولكن النهي الذي صار إليه شيخ الشريعة هو النهي الإلهي الربّاني أما السيد الخميني فقد ذهب إلى النهي السلطاني أو الحكومتي وقد أطال(قده) الكلام في هذا المجال ولكننا نقتصر على نقل لبّ المطلب [1] وحاصل ما ذكره يرجع إلى مقدمة ودليلين:-
 أما المقدمة:- فهي أن النبي صلى الله عليه وآله توجد له ثلاث حيثيات - وعلى حدّ تعبيره ( ثلاثة شؤون ) -:-
 الحيثية الأولى:- حيثية لتبليغ ، فهو صلى الله عليه وآله مبلّغ لأحكام الله عز وجل فإن الركن الركين في النبيّ والنبوة هو ذلك وهذا مما لا كلام فيه.
 الحيثية الثانية:- حيثية كونه رئيس الدولة أو بالأحرى حيثية كونه سلطاناً وهذه حيثية ثبتت له بقطع النظر عن مسألة تبليغ الأحكام فإذا قال ( نفذوا جيش أسامة لعن الله .... ) إن هذا أمر بتنفيذ جيش أسامة بما أنه مدبر ومدير وسلطان للبلاد لا بما هو مبلّغ لأحكام الله عز وجل ومن هنا قالت الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) فإنها ذكرت الاطاعة مرتين [2] فقالت ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) والحال أنه قد يخطر إلى الذهن أن المناسب الاقتصار على الاطاعة الأولى وذلك بأن تقول الآية هكذا ( أطيعوا الله ورسوله ) باعتبار أن كل ما ينقله عن الله فإطاعة الرسول اطاعة لله عز وجل لا أن هذه الاطاعة في مقابل تلك الاطاعة حتى يكرر لفظ الاطاعة ، وهكذا يوجد تساؤل ثانٍ وهو أنه لماذا كررت كلمة الاطاعة مرتين ولم تكرر ثالثةً بالنسبة إلى أولي الأمر ؟ إن الجواب عن ذلك صار واضحاً فان الآية الكريمة تريد بالفقرة الأولى أن تشير إلى الأوامر والتكاليف الالهية الواصلة بطريق النبي صلى الله عليه وآله من وجوب صلاة وصوم وحج وغير ذلك فهذه داخلة تحت عنوان ( أطيعوا الله ) ولكن هاك أوامر تصدر من النبي صلى الله عليه وآله لا ربط لها بحيثية تبليغ الأحكام الالهية بل بما هو سائس ومدبّر للبلاد الاسلامية فبهذا الاعتبار يُنصِّب شخصاً ويعزل آخر ويجهّز جيشاً ويصدر أوامراً ونواهياً وما شاكل ذلك فإنه بهذا اللحاظ تجب إطاعته وهي إطاعة ثانية ليست داخلة تحت الإطاعة الأولى فتلك إطاعة لله في الأوامر والتكاليف الإلهية وهذه إطاعة للرسول في أوامره وتكاليفه بما هو رئيس للبلاد فالتكاليف الصادرة منه في مجال أدارة البلاد تجب إطاعتها ، إذن من المناسب تكرار كلمة الاطاعة مرتين وليس من المناسب ذكرها بالنسبة إلى أولي الأمر فان اطاعتهم هي بهذا الاعتبار ، أي باعتبار أنهم رؤساء ومدبّرون للبلاد وهي ليست إطاعة جديدة مغايرة للإطاعة المشار إليها في قوله تعالى ( وأطيعوا الرسول ) ، إنه قد اتضح الجواب عن هذين التساؤلين من خلال ما ذكرناه.
 إذن ما يدلّ على ثبوت هذه الحيثية للرسول صلى الله عليه وآله هي هذه الآية الكريمة.
 ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) فإنها دلّت وقالت ( إذا قضى الله ورسوله ) والحال أن المناسب أن يقتصر على لفظ الجلالة فقط من دون حاجة إلى ذكر الرسول صلى الله عليه وآله فان قضاءه قضاء الله عز وجل ، هكذا قد يتساءل ؟ وقد اتضح الجواب فان المقصود من قضاء الرسول هو قضاءه بما هو مدير ومدبّر لأمر البلاد.
 الحيثية الثالثة:- حيثية كونه يفصل الخصومة بين الناس وهي حيثية القاضي والقضاء فانه صلى الله عليه وآله يقضي بين الناس إذا حصل بينهم خصام وتشاجر وتشير الى هذا المعنى الآية الكريمة ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ).
 والخلاصة:- إن الرسول صلى الله عليه وآله له هذه الحيثيات الثلاث.
 ثم قال(قده):- إننا ندعي أن حديث لا ضرر حينما صدر منه فقد صدر منه بما هو مدير ورئيس للبلاد - أي باعتبار الحيثية الثانية - وهذا معناه أن النهي الصادر منه نهي سلطاني ، ويمكن أن نستدل على أنه سلطاني وليس الهياً بوجهين:-
 الوجه الأول:- إذا رجعنا إلى الروايات فمرّة نلاحظ روايات العامة وأخرى نلاحظ روايات الخاصة:-
 فإن لاحظنا روايات العامة حيث قلنا أن الحديث قد ورد في مسند أحمد عن عبادة بن الصامت والوارد فيه ( قضى صلى الله عليه وآله بأنه لا ضرر ولا ضرار ) يعني أنه ورد في جملة أقضيته المتعددة التي أحدها ( لا ضرر ولا ضرار ) فإذا لاحظنا هذه الرواية فنقول:- إن كلمة ( قضى ) لا تشمل الحيثية الأولى - أي حيثية تبليغ الأحكام - فانه لا يُعبّر فيها بكلمة ( قضى ) بل هي مردّدة بين أن تكون بمعنى أنه قضى من باب أنه سلطان أو قضى من باب أنه يفصل الخصومة والثاني بعيد لأن باب القضاء وفصل الخصومة يحتاج إلى إصدار حكم جزئيٍ لا حكمٍ كليٍّ يعني أن القاضي حينما يقضي لا يصدر أحكاماً كليّة إذ لو أصدرها لكان ذلك من باب الإفتاء وإنما يصير المورد من القضاء إذا قال ( هذه الدار لفلان وليست لفلان ) أو ( إن هذا الشخص هو صاحب الحق وليس ذاك ) أما أن يحكم بحكمٍ كليٍّ فليس بموجود في باب القضاء والنبي صلى الله عليه وآله أصدر حكماً كليّاً وهذا لا يتناسب مع كونه قاضياً وهذا يكشف عن كونه قد أصدره بما هو مدير للبلاد وكأنه يقول ( أيها الناس لا يضرّ شخصٌ شخصاً آخر في حكومتي وفي دائرة سلطاني ) فالنهي نهي سلطاني وليس نهياً تبليغياً وليس لفصل الخصومة.
 وأما إذا نظرنا إلى روايات الخاصة فالوارد فيها أن الانصاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله في قصة سمرة يشكو إليه ظلمه والنبي صلى الله عليه وآله في مقام دفع هذا الظلم عنه لا معنى لأن يقول ( لا ضرر ولا ضرار ) قاصداً بذلك المعنى الذي أفاده الشيخ الأعظم - يعني أنه لا توجد أحكام ضررية في الشريعة - فان هذا لا يرفع الظلم عن الأنصاري بعرض هذه القضاياً الكليّة ، وهكذا لا يرتفع ظلم هذا المظلوم بما أفاده شيخ الشريعة - أي من أنه لا يجوز ويحرم بالتحريم الإلهي أن يضرّ شخص شخصاً آخر - وإنما الذي يرفع الظلم هو أن يصدر حكماً سلطانياً منه صلى الله عليه وآله إذ هو الذي يرفع المشكلة فيقول ( بما أني سلطان ومدير للبلاد أحكم بكذا ) وهذا هو الرافع لظلم المظلوم لا أن الرافع له ما ذكر الشيخ الأعظم من تفسير أو ما ذكره شيخ الشريعة.
 الوجه الثاني:- إن النبي صلى الله عليه وآله أمر بقلع النخلة وقال للأنصاري ( اذهب فاقلعها وارم وجهه ) وعلّل بأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) فإنه بناءً على تفسير الشيخ الأعظم وعلى تفسير شيخ الشريعة لا توجد مناسبة بين المعلّل والتعليل ، أما بناءً على تفسير الشيخ الأعظم فلأنه يقول إن معنى الحديث هو ( لا حكم ينشأ منه الضرر ) - يعني أن كل حكم ضرري هو مرتفع - ومن الواضح إن قلع النخلة أو الأمر بقلعها هو بنفسه ضرري وإدخال للضرر على سمرة ، إذن يلزم المناقضة بين لا ضرر وبين الأمر بقلع النخلة فإن نفس قلعها هو إدخال للضرر على سمرة لأنها ملكه ومن حقه أن تثبت في الأرض فقلعها حكم ضرري فتعليل الأمر بالقلع بلا ضرر يكون غير مناسب فإن نفس القلع هو ضرري فكيف يعلل بأنه لا حكم ضرري ينشأ من الشريعة . وهكذا على تفسير شيخ الشريعة فانه يقول إن المقصود هو أنه ( لا يجوز أن يضرّ شخص لآخر ) ونفس القلع هو إضرار من النبي في حق سمرة .
 إذن لا توجد مناسبة بين التعليل وبين المعلّل على هذين التفسيرين فلابد وأن يكون المقصود هو النهي السلطاني - أي بما أني رئيس لبلاد أأمر بقلع هذه النخلة وأنه لا يجوز الإضرار بحوزتي ، وبهذا يثبت أن النهي سلطاني . هذا توضيح ما أفاده(قده).


[1] ومن أراد ان يراجع رسالته لا ضرر المسمات ( قلائد الدرر ) من 105 121. ط جديدة
[2] وهذه فائدة جانبية وان كان بالإمكان حذفها والاستغناء عنها ولكن بما أنها نكتة علمية نافعة فلا بأس بالإشارة إليها.