الموضوع / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
هذا ويمكن أن نغيّر اللهجة في مثل الأراضي الشاسعة والأنهار الكبيرة وذلك بأن نقول:- نحن نسلم أن الحائز يملك جميع ما حازه من أرض أو ماء وهو ملك وحق له ولكن لِمَ لا نقول إن الملكية على نحوين فتارة تكون سنخ ملكية بأعلى مراتبها بحيث لا يحق التصرف بالمملوك إلا بإجازة حائزه وأخرى تكون سنخ ملكية أضعف من سابقتها فهو مالك وله الحق في أن يهدي قسماً مما حازه ويورّثه لوراثه مادام هو ملكه ولكن تصرف لآخرين فيه بمثل التصرفات المذكورة من صلاة وأكل ونوم وما شاكلها هو جائز أيضاً ولو من دون رضاه بل حتى مع نهيه نظير ما يقال في من يملك شجراً له ثمار فقد ذكر الفقهاء تبعاً للروايات أن من مرّ على تلك الأشجار له الحق في أن يأخذ من ثمرها حتى لو لم يرض المالك فان مقتضى إطلاق الروايات ذلك ، نعم قد يتوقف بعض الفقهاء في حالة إحراز عدم الرضا ، وهكذا بالنسبة إلى بيت الخالة والعمّة ممن أشارت إليهم الآية الكريمة فانه يجوز التصرف في تلك البيوت من الأكل والشرب حتى مع عدم إحراز الرضا.
إذن يمكن أن نقول:- إن الملكية ثابتة للحائز ولكنها سنخ ملكية ضعيفة لا تمنع من تصرفات الآخرين ومستندنا في ذلك هو أن الملكية القويّة لا مثبت لها إذ المستند للملكية ليس إلا السيرة كما قلنا والسيرة لا يثبت بها أن الملكية ملكية قوية بل تلتئم مع الملكية الضعيفة فيتمسك بالقدر المتيقن آنذاك.
إذن في البيان الأول كنا نقول بأن الحائز لا يملك الزائد عن مقدار حاجته بينهما في هذا البيان نقول نسلّم بالملك ولكن لا يوجد مثبت لكون الملكية هي ملكية قويّة بل لعلها ملكية ضعفة وحيث لا مثبت للقوية فلا نصير إليها وواضح إنه ستترتب بعض الفوارق على هذين البيانين -.
وقد يشكل على هذا البيان الثاني:- بأنه منافٍ لقوله عليه السلام ( لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيبة نفس منه ) فإنا ما دمنا قد سلمنا أن الشيء المُحَاز هو ملك للحائز فمقتضى هذا الحديث أنه لا يجوز التصرف به إلّا بطيب نفسه ، فالمثبت للملكية القوية إذن هو هذا الحديث.
وهذا الاشكال لا يتوجه على البيان الأول إذ كنّا نقول فيه إن الثابت بالسيرة هو ملكية الحائز ولكن بمقدار حاجته وأما الزائد فلم يثبت كونه مالكاً له حتى يُطبّق حديث ( لا يحل مال امرئ مسلم ..... ) وأنه مختص بالمالك ، ففي البيان الأول قد فرضنا أن الحائز لا يملك الزائد عن مقدار حاجته فهذا الاشكال لا يأتي عليه ولكنه يأتي على البيان الثاني باعتبار أنا سلمنا أن الحائز مالك للجميع غايته قلنا أنه لا مثبت لكون هذه الملكية هي من سنخ الملكية القويّة ولعلها من سنخ الملكية الضعيفة وحيث لا مثبت للملكية القويّة فلا يمكن المصير إليها فيأتي هذا الاشكال فيقول ما دمت قد سلمت أن الحائز مالك فلا يجوز التصرف حينئذ حتى في الزائد إلا بإذنه وبذلك ثبتت الملكية القويّة له ، وهو بيان ظريف وجميل.
والجواب:- إن من الوجيه أن يدعى أن حديث ( لا يحل مال امرئ مسلم .... ) ليس حديثاً تأسيسياً وتعبدياً - يعني أنه لا يريد أن يقول شيئاً جديداً وغريباً عمّا هو مرتكزٌ لدى العقلاء - بل هو حديث امضائي لما عليه ارتكاز العقلاء فان المرتكز لديهم أن المالك للشيء لا يجوز أن يزاحمه غيره فيه بل لابد من طيب نفسه فالحديث إمضائي وليس تأسيساً ، وإذا قبلنا بهذا فلا يصلح آنذاك أن يكون رادعاً لتلك السيرة الجارية على التصرف في الأراضي الشاسعة من قبل العقلاء فقد قلنا إن العقلاء يتصرفون في الأراضي الشاسعة وما داموا يتصرفون فهذا الحديث الإمضائي الذي يحكي عن بناء عقلائي وليس عن مطلبٍ تأسيسيٍ لا يكون رادعاً عن ذلك البناء العقلائي فان تلك السيرة الجارية على التصرف تحكي عن بناءٍ من قبل لعقلاء على التصرف في الأراضي الشاسعة ، وإنما تتم هذه الرادعية لو كان الحديث حديثاً تأسيسياً لا ما إذا كان امضائياً ، وهذه نكتة ظريفة يجدر الالتفات إليها.
ومن خلال هذا كله اتضح أن حديث لا ضرر صالح لكونه مرتبطاً بالحكم السابق عليه سواء في قصة سمرة أو في حديث الشفعة أو في حديث المنع من فضل الماء ولا داعي إلى ما صار إليه شيخ الشريعة(قده) ومناصروه من كون ذلك من قبيل الجمع بين روايتين مستقلتين . وبهذا ننهي حديثنا عن البحث الأول من الأبحاث الأربعة في قاعدة لا ضرر.
البحث الثاني:- المعنى الإفرادي لكلمة ( ضرر ) ولكلمة ( ضرار ).
مرة نتحدث عن معنى كلمة ضرر وأخرى نتكلم عن معنى كلمة ضرار
معنى كلمة ضرر:- لعله إذا رجعنا إلى بعض الكتب
[1]
لوجدنا أن الضرر عبارة عن النقص سواء في المال أو في النفس أو في العِرض فمن كان عنده ألف دينار وسرق منه دينار فهو ضرر لأنه نقص في المال وهكذا من قطعت يده أو اصبعه فذلك نقص في النفس أو البدن وهو ضرر وهكذا من تجاوز الغير على عِرضه فإنه ضرر ، وقد يفسّر الضرر بالمشقة المطلقة أو الشديدة والضيق . إذن يحتمل التفسير الأول ويحتمل التفسير الثاني
ولكن المناسب أن يقال:- إن الضرر ليس هذا فقط وليس ذاك فقط بل هو مركّب من مجموع الأمرين ، يعني هو النقص في المال أو العِرض أو البدن بشرط أن يوجب المشقة والضيق ، أما إذا فرض وجود نقصٍ وحده من دون مشقة وضيق كما لو فرض أن شخصاً ضاع من أمواله دينار واحد في زماننا من بين مليون دينار فإنه بناءً على التفسير الأوّل يكون ضرراً لأنه حصل نقص في ماله والمفروض أن التفسير الأول لا يشترط الضيق بل يكتفي بالنقص ، ولكن على ما ذكرنا سوف لا يكون ذلك ضرراً فان تلف الدينار أو نصفه لا يوجب مشقة وضيقاً على الشخص . إذن النقص وحده ليس بضررٍ كما أن الضيق وحده ليس بضررٍ فإن الضيق وحده حَرَجٌ وليس بضررٍ ولابد من التمييز بين الحرج والضرر ، فالمريض إذا أراد أن يتوضأ يقع في المشقة وهذا ليس نقصاً ولكنه حَرَجٌ وليس ضرراً ، وهكذا إذا فرض أن الشخص إذا أراد أن يصرف أمواله في الحج ولم يشتر بها داراً وهو محتاج اليها فانه يقع هنا في الحرج لا أنه يحدث عنده ضرر لأنه لا يحصل له نقص . إذن الضرر هو النقص المقيّد بالمشقة لا مطلق النقص ولا مطلق المشقة.
ويترتب على هذا التأمل فيما ذكره بعض الفقهاء من أن الوضوء لو توقف على بذل مالٍ فالنوبة تنتقل إلى التيمم لقاعدة ( لا ضرر ) فان هذا ضرر عليه لأنه سوف تنقص أمواله ، بينما بناءً على ما ذكرناه لا يُعَدُّ هذا ضرراً لأن الضرر ليس مطلق النقص . إذن هذا بحث مهم.
يبقى من حقك أن تسأل وتقول:- ما هو المثبت لكون الضرر هو المجموع من النقص مع الشدّة والمشقة ؟
[1]
كما نقل ذلك في الكفاية الأصول وغيرها.