الموضوع / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
ثم إنه إن انتهينا الى أن الإنسان الحائز أكثر من حاجته يملك مقدار حاجته دون الزائد فالزائد سوف يكون حقاً لبقيّة الناس وليس للحائز فإذا منعهم منه فسوف يكون هذا ضررا لأنه منع لهم عن حقهم وسلباً لبعض حقوقهم وبذلك يحصل تلاؤم بين فقرتي ( لا ضرر ) وفقرة ( نهى النبي عن فضل الماء ).
وإن بنينا على أن الحائز يملك جميع ما جاز حتى الزائد عن حاجته فحينئذ يكون التعليل بـ( لا ضرر ) في غير محلّه إذ المفروض أن الزائد عن الحاجة هو ملك للحائز فإذا لم يبذله للآخرين لا يكون ذلك سلباً لحق من حقوقهم وبالتالي لا يصدق الضرر.
إذن الارتباط بين حديث لا ضرر وبين النهي عن فضل الماء يرتبط بتحقيق هذه النقطة ، وبالتالي يصح ما قاله الشيخ النائيني(قده) من أن الجمع هو جمع بين حديثين مستقلين.
وفي هذا المجال نطرح سؤالين:-
السؤال الأول:- لو فرض أننا أثبتنا أن الحائز يملك مقدار حاجته فقط فالباقي عن حاجته سوف يكون حقاً للآخرين وبالتالي لا يجوز منعه ويصدق عنوان الضرر ، إن هذا شيء وجيه ، ولكن ما نصنع مع الإجماع فإنه قد ادعي وجود إجماع بين الفقهاء على أن المنع من الزائد ليس حراماً بل هو مكروه . إذن حتى لو أثبتنا أن الزائد عن الحاجة هو حقّ لبقيّة الناس ولكنه لا ينفعنا إذ بالتالي يوجد إجماع على أن المنع من الزائد حكم كراهتي لا تحريمي فيعود الاشكال من جديد وبذلك يتم ما أراده الشيخ النائيني وشيخ الشريعة ، فماذا تصنع مقابل الإجماع ؟
والجواب:- إنه حتى لو سلمنا بحجية بالاجتماعات المنقولة ولكن نقول لا يوجد إجماع فان شيخ الطائفة(قده) قد خالف في المسألة وقال إن الإنسان يستحق مقدار حاجته والزائد لا بد وأن يبذله للآخرين فمنعه محرم فلاحظ عبارته ( إذا ملك البئر بالإحياء وخرج ماؤها فهو أحق بملئها من غيره بقدر حاجته وحاجة ماشيته وما يفضل عن ذلك يجب عليه بذله لغيره لحاجته إليه للشرب له لماشيته .... )
[1]
. إذن الشيخ في هذه العبارة يصرح بأن الفاضل عن الحاجة يلزم بذله لبقيّة الناس فالمسألة ليست اجماعية حتى يحول الإجماع دون ما نريد أن ننتهي إليه.
السؤال الثاني:- قد تقول:- كيف تثبت أن الحائز والمحيي للشيء لا يملك إلا مقدار حاجته دون ما زاد ؟
والجواب:- إن مِلك جميع الماء بما في ذلك الزائد عن الحاجة هو الذي يحتاج إلى دليل ، فانت لابد وأن تقيم دليلاً على أن المحيي للشيء والحائز له يملكه بتمامه - بما في ذلك الزائد عن حاجته - وما هو دليلك على ذلك ؟ ولعلك تجيب بأن الدليل هو قاعدة ( من حاز ملك )
والجواب:- إن هذه ليست رواية وإنما هو تعبير فقهي متصيّد ، فان هناك تعبيرات فقهية قد يتخيل البعض خطأ أنها روايات والحال أنها لست كذلك أو حتى إذا كانت روايات فهي ضعيفة جداً لا تصلح للاستناد إليها من قبيل من ( أتلف ما الغير فهو له ضامن ) و ( من حاز ملك ) و ( على اليد ما أخذت حتى تؤدي ) .... وعلى هذا المنوال ، إذن ( من حاز ملك ) ليست برواية صحيحة السند بل إما أنها ليست برواية أصلاً وإنما هي تعبير فقهي أو أنها رواية قد وردت في عوالي اللآلي مثلاً من المراسيل وغير ذلك ، ولكن في نفس الوقت نحن نسلم بهذه القاعدة ومستندها هو السيرة المنعقدة في زماننا والممتدة إلى زمان المعصوم فان سيرة الناس قد جرت على أن من أخذ مقداراً من الماء من النهر فلا يحق للآخرين أن يزاحموه أو من أخذ سمكة من النهر فلا يحق للآخرين أن يزاحموه وهكذا فإن السيرة منعقدة على ذلك وحيث أنها ثابته في زمان المعصوم جزماً ولا يحق لأحد أن يقول من أين لك أنه كان الأمر كذلك في زمان المعصوم ؟ إذ نقول أفهل يحتمل أن من أخذ سمكة من الماء في زمان المعصوم يحق للآخرين بأن يأخذوها منه ؟! إن احتمال هذا ليس موجوداً . إذن هذه سيره كانت في زمان المعصوم وقد سكت عنها وبسبب سكوته تكون ممضاة ، ومعه لابد وأن نتعامل مع هذه السيرة.
وحينئذ نقول:- إن السيرة تُثبت الحق دون الملك ، يعني أن الشخص الحائز له حقٌ فيما حازه لا أنه يملكه - وهذه قضية ليست مهمة الأن وإنما أردت التنبيه على هذا الأمر الفني - وذا كان الأمر كذلك فلو كانت هناك أثار للملكية موجودة فلا نتمكن أن نثبتها بهذه السيرة فأقصى ما يثبت هو الحق ولكن بأي مقدار ؟
فمرة يدّعى أننا نجزم أن مقدار السيرة ومساحتها هو خصوص مقدار الحاجة ، وثانية نشك في أنها وسيعة تشمل الزائد عن مقدار الحاجة أو تختص بمقدار الحاجة ، وثالثة نجزم بسعتها.
فان بنينا على الاحتمال الأول:- باعتبار أن السيرة في زمان المعصوم كانت كذلك فان الإنسان كان يحوز مقدار حاجته ولم تكن هناك وسائل حديثة حتى يحوز بها أكثر من ذلك بل كانت الوسائل للحيازة بدائية والانسان عادة يحوز مقدار حاجته ، فان تمّ هذا فعلى هذا الأساس يبقى المقدار الزائد عن الحاجة لا مثبت لكونه حقاً للحائز بل يبقى على الإباحة العامة فيجوز لكل إنسان أن يأخذه آنذاك.
وإن بنينا على الاحتمال الثاني:- فحيث أن السيرة دليل لبّي وليس لفظياً حتى ينعقد له إطلاق يثبت السعة فيقتصر على القدر المتيقن وهو الحقيّة بمقدار الحاجة لا أكثر.
وأما إذا بنينا على الاحتمال الثالث:- فجوابه:- أنه حتى لو سلمنا ذلك ولكن حيث أن سيرة العقلاء ليست لوحدها دليلاً بل تحتاج إلى إمضاء وعدم ردعٍ فإذا ثبت الردع عنها فلا تكون لها قيمة والرادع موجود وهو نفس هذه الرواية التي تنهى عن المنع من فضل الماء ( نهى النبي ..) فإنها وما شاكلها صالحة للردع عن مثل هذه السيرة فلا تكون حينئذ حجّة وبالتالي لا يثبت الحق للحائز إلا بمقدار حاجته لفكرة القصور في المقتضي ، يعني أن الدليل على أن له الحق في الزائد ليس موجوداً.
وبذلك يتضح لنا وجه فنّي لتخريج الفتوى المشورة في الأنهار الكبيرة والأراضي الوسيعة فإن هناك مسألة يذكرها الفقهاء وهي أنه يجوز الوضوء والصلاة والسير والنوم في الأراضي الوسيعة العائدة إلى الناس الآخرين ، وما هو التخريج الفني لجواز ذلك ؟ علل بعض الفقهاء بأن سيرة المتشرعة قد جرت على أنهم يصلّون في الأرض الوسيعة من دون أن يأخذوا الإذن من مالكها - وهذه السيرة قد تكون ثابتة -.
ولكن الذي أريد قوله:- هو أنه قد اتضح من خلال بياننا وجه آخر لهذا القول وهو أنه يوجد قصور في المقتضي ، فمن البداية لم يثبت حق صاحب الأرض الوسيعة إلا بمقدار حاجته وأما الباقي فلا مثبت لكونه حقاً له ، وعلى هذا الأساس يجوز التصرف.
[1]
الخلاف 3 531 مسألة 13 من مسائل إحياء الموات.