الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/06/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 وتوضيح ذلك:-
 أما بالنسبة إلى الشرط الأول:-أعني أن لا يكون موجباً لإثبات حكم من جهة أخرى - فمثل له بثلاثة أمثلة:-
 المثال الأول:- ما لو فرض أن لدينا اناءين أحدهما نجس أي يجب الاجتناب عنه - فان اجراءأصالة البراءة عن الأول يلزم منه وجوب الاجتناب عن الثاني فلا يجري إذن أصل البراءة عن الأول ، وهكذا لا يجري بالنسبة إلى الثاني لأنه يوجب الاجتناب عن الأول.
 والمثال الثاني:- لو فرض أن لدينا ماءً ولا ندري أنه كرّ أو لا ولاقته نجاسة حتماً . قد يقال:- ان المشهور قالوا انا نجري أصالة عدم كونه كرّاً فانه حينما يوجد الماء فانه يوجد عادة بشكل تدريجي فحالته السابقة هي عدم الكرية جزماً فنجري أصالة عدم كونه كرّاً . ولكن الفاضل التوني يقول لا يجوز ذلك لأنه إذا أجريت هذا الأصل فسوف يصير الاجتناب عنه واجباً فلزم من جريان الأصل وجوب الاجتناب فلا يجري هذا الأصل.
 والمثال الثالث:- لو كان لدينا ماء قليل جزماً- أي دون الكر - وعلمنا بطروّ صفة شيئين عليه الكرية والنجاسة ولكن لا ندري هل أصابته النجاسة أولاً حتى يصير نجساً أو أنه صار كراً أولاً ثم لاقته النجاسة حتى لا ينفعل بها ؟ قال(قده) هنا لا تجري أصالة عدم تقدم الكريّة لأن لازم عدم تقدمها هو أنه نجس ويجب الاجتناب عنه ، اذن لزم من جريان هذا الأصل وجوب الاجتناب.
 إذن الأصل في هذه الامثلة الثلاثة لا يجري لأنه يلزم من جريانه ثبوت حكم من زاوية أخرى.
 ونلفت النظر إلى قضية جانبية:- وهي أن ذكر المثالين الأخيرين ليس بمناسب وذكرهما وقع من باب السهو ، والغريب أن الشيخ الانصاري(قده) أنه لم ينبه على ذلك فان كلامنا هو في أصل البراءة إذ هو قال ( ان لأصل البراءة شرطان ) ولكن من الواضح أن الأصل في المثالين الأخيرين ليس هو البراءة وانما هو استصحاب عدم كونه كرّاً- هذا في المثال الثاني - واستصحاب عدم تقدم الكريّة - هذا في الثالث - نعم هو لم يعبّر بالاستصحاب وإنما عبّر بأصالة عدم كونه كرّاً في المثال الثاني وبأصالة عدم تقدّم الكريّة في المثال الثالث ، ونحن قد نبهنا أكثر من مرة على أنه لا يوجد عندنا أصل عدم تقدم الكرية أو غيرها غير الاستصحاب ، وهذا من الأمور الواضحة.
 وأما بالنسبة إلى الشرط الثاني:- فقد ذكر له ثلاثة أمثلة ايضاً:-
 المثال الأول:- لو فرض أن إنساناً فتح قفص طيرٍ لشخص فهرب الطير منه فهل هو ضامن ؟ قد يقال انا نشك في الضمان لأنه لم يقصد فتح القفص - كما لو علقت عباءته بالقفص ففتحته ، والكلام على القواعد - فنجري أصالة براءة الذمة من الضمان [1] ، ولكن الفاضل التوني قال لا يجري لأنه سوف يتضرر صاحب الطير وشرط جريان أصل البراءة عدم تضرر شخص من خلال ذلك والّا فعندنا قاعدة لا ضرر.
 والمثال الثاني:- لو فرض أن شخصاً حبس شاة فمات ولدها فهل يكون ضامنا للولد ؟ قد يقال نحن نشك في ثبوت الضمان فنجري أصل البراءة من الضمان ، وهو(قده) أجاب بانه لا يجري الأصل لأنه يلزم من ذلك تضرر المالك وعندنا قاعدة لا ضرر.
 والمثال الثالث:- لو فرض أن شخصاً أمسك بآخر فهربت دابة الممسوك ، فهل يضمن الشخص الذي أمسكه للدابة ؟ قال(قده) ان أصل البراءة لا يجري لأنه يلزم من ذلك تضرر صاحب الدابة.
 إذن لجريان أصل البراءة شرطان كما أوضحنا.
 ولنا تعليق على كلا الشرطين:-
 أما بالنسبة إلى الشرط الأول:- فالكلام تارةً يقع في كبراه ، وأخرى في الأمثلة التي ذكرها:-
 أما بالنسبة الى الكبرى:- فهو قد ذكر هكذا ( شرط جريان البراءة عدم ثبوت حكم من جهة أخرى ) . ونحن نقول:- إذا كان مقصود الفاضل التوني أنه لا يجوز إجراء أصل البراءة بهدف إثبات الحكم من زاوية أخرى فهذا في بعض الموارد يكون شيئاً وجيهاً باعتبار أنه يصير أصل مثبت كما في مثال الاناءين فانه إذا أجرينا أصل البراءة عن هذا الاناء وكان هدفنا إثبات وجوب الاجتناب عن الآخر فهذا أصل مثبت لأن الملازمة ليست شرعية والحق معه ، ولكنه(قده) لا يقصد الإشارة إلى هذا المطلب وإنما يقصد أنه ما دام يلزم ثبوت حكم - ولو لم يكن الهدف ذلك - فلا يجري الأصل بقطع النظر عن محذور الأصل المثبت.
 ونحن نقول له:- هذا شيء مرفوض ، فانه أحياناً يكون موضوع الحكم مركباً من جزأين وبجريان أصل البراءة يتنقح ذلك الموضوع - أو بالأحرى جزء الموضوع - من قبيل وجوب الحج فانه إذا فرض أن موضوعه هو الاستطاعة مع عدم اشتغال الذمة بالدين والاستطاعة كانت موجودة عندي جزماً ولكني أحتمل أني مشغول الذمة لفلان بدين أو حقٍآخر فأجري أصل البراءة من اشتغال ذمتي وبذلك يتنقح الجزء الثاني من موضوع وجوب الحج فأحد الجزأين وهو الاستطاعة محرز بالوجدان - لفرض أنه جاءني شخص وأعطاني مالاً كافياً للحج- والجزء الثاني محرز بأصل البراءة فيثبت بذلك وجوب الحج عليَّ، والذي يثبت وجوب الحج ما هو ؟ان المثبت هو ذلك الدليل الاجتهادي الأول الذي دل على أنهيجب الحج إذا استطاع الإنسان مع عدم اشتغال ذمته بدين فان ذلك الدليل الاجتهادي هو الذي يثبت الوجوب وليس هو الأصل وانما دور الأصل دور المنقح لجزء الموضوع فأي مانع من ذلك أيها الفاضل التوني.
 إذن جريان الأصل وان لزم منه أحياناً ثبوت الحكم ولكن مادام دور الأصل دور المنقح للموضوع فالمثبت للحكم سوف يصير هو الدليل الاجتهادي ، وهذا لا مانع منه ولا محذور فيه ، وهذه من القضايا الظريفة والتي ينبغي الالتفات إليها.
 وأما الأمثلة التي ذكرها:-
 أما بالسبة إلى المثال الأول:- فان الجواب واضح:- فانا حينما نجري أصل البراءة في هذا الاناء سوف لا يثبت وجوب الاجتناب بلحاظ ذلك فان هذا أصل مثبت وهو ليس بحجة ، ولكن رغم ذلك لا يجري هذا الأصل لا لأجل ما ذكره الفاضل التوني ، كلا إذ قلنا أنه ليس بمثبت لأن الملازمة ليست شرعية ، وإنما لا يجري للمعارضة ، فانه كما أن الأصل هو البراءة من هذا يكون الأصل هو البراءة من ذاك فعدم الجريان للمعارضة لا لأجل أنه يثبت حكماً من جهة أخرى ، كلا فانه لا يثبت حكماً من جهة أخرى إذ ليس له هذا اللسان إلا من خلال الأصل المثبت وهو ليس بحجة.
 وأما بالنسبة إلى المثالين الأخيرين:- فلا محذور من جريان الأصل لأنه من خلاله سوف يتنقح موضوع نجاسة الماء فان موضوع نجاسة الماء على ما يستفاد من النصوص هو القلّة - أي أن لا يكون كرّاً -مع الملاقاة ، والملاقاة محرزة بالوجدان وعدم الكريّة محرزة بالأصل فتنقح موضوع نجاسة الماء فتثبت نجاسته لا بالأصل حتى يقول الفاضل التوني هذا لا يجوز بل ثبتت بذلك الدليل الاجتهادي الذي يقول كل ماء إذا لم يكن كراً ولاقته نجاسة فينجس ، من قبيل الرواية التي تقول ( إذا بلغ الماء قدر كر فلا ينجسه شيء )فبالمفهوم نستفيد منها أنه إذا حصلت الملاقاة وهو ليس بكرٍّ فهو نجس ، فانه من خلال هذا الدليل سوف يثبت الحكم بالنجاسة وليس بالأصل حتى يقول ان الأصل ليس له تلك الطاقة.
 وأما ما ذكره في الشرط الثاني:-ففي جوابه نقول:- صحيح انه إذا لزم التضرر فلا يجري أصل البراءة ، ولكن لا ينبغي عدّ ذلك شرطاً فهذا مطلب ليسبصحيحٍ فنيّاً، والوجه في ذلك هو أن قاعدة لا ضرر دليل اجتهادي ومع وجود الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وعليه فأصل البراءة من الضمان لا يجري لوجود قاعدة لا ضرر التي هي دليل اجتهادي كسائر الأدلة الاجتهادية فكما يشترط في أي جريان للأصل فقدان أي دليل اجتهادي كذلك يشترط فقدان قاعدة لا ضرر ، ولكن هذا ليس شرطاً جديدًا غير الشرط العام في أي أصل من الأصول.
 بل يمكن أن نصعد اللهجة ونقول:- حتى لو فرض أن الأصل لم يكن أصلاً بل كان دليلاً اجتهادياً فرغم ذلك إذا فرض وجود قاعدة لا ضرر فالدليل الاجتهادي المقابل لا يجري ما دامت قاعدة لا ضرر موجودة فان قاعدة لا ضرر يخضع لها كل دليلٍ اجتهادي فضلاً عن الأصل العملي ، ولماذا ؟ من جهة أنها مقدّمة على جميع الأدلة الاجتهادية - لما يأتينا انشاء الله تعالى - فضلاً عن الأصل العملي.


[1] أما نحن فلا نشك في ذلك اذ نقول له قد استند اتلاف الحيوان أو الطير إليك ، نعم أنت لست بآثم ولكن قاعدة ( من أتلف مال الغير فهو له ضامن ) تقول عليك الضمان. ولكن كلامنا بغض النظر عن هذا بل إذا شككنا في ذلك.