الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/06/27

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 وكلا الوجهين كما ترى:-
 أما الوجه الأول:- فباعتبار أن الكبرى الذكورة في الوجه المذكور وان كانت عرفية ومسلّمة فان من المسلم ان عدم الفحص لو أدى إلى عدم فعلية التكليف على طول الخط فيكون الفحص لازماً كي لا يلزم لغوية التشريع فالكبرى وفهم العرف لزوم الفحص شيء وجيه كما قال ، إلا أننا ننكر الصغرى ، أي لا نسلم أن فعلية التكليف موقوفة على الفحص ، ففي مسألة الحج كثيراً ما يحصل لنا العلم بالاستطاعة من دون حاجة إلى فحص كما لو أهدى الى شخص مبلغاَ يصير به مستطيعاً أو مات أحد أقاربه وحصل له مال يستطيع به الحج ..... وكثيراً من هذا القبيل ، فالإنسان في زماننا يعلم أنه مستطيع من دون حاجة إلى فحص غالباً ، وهكذا الحال بالنسبة إلى مسألة وجوب الخمس فان الإنسان يعرف عادة أنه عنده زيادة في الأرباح اما لأجل أنه مطلع على الأرباح أو لأجل أنه اتفاقاً ينظر كل يوم إلى دفتر الحسابات ، فهذه أمور واضحة تحصل بالفحص القهري في كل يوم.
 والخلاصة:- نحن لا نسلم الصغرى - وهي أنه لو لم يجب الفحص يلزم أن لا يصير الحكم في هذه الامثلة فعلياً - فانه خلاف ما نشعر به بالوجدان.
 وأما الوجه الثاني:- فباعتبار أن عدم الفحص من قبل المكلف لا يؤدي إلى مخالفة علمه الاجمالي عادة ، فان المكلف لا يعلم عادة أنه حتماً سوف يستطيع خلال فترة عمره كلا ثم كلا فان هذا العلم الاجمالي ليس بثابت في حق المكلف وإنما هناك احتمال أن الاستطاعة حاصلة.
 نعم هناك علم اجمالي بشكل آخر نسلم تحققه وهو العلم بأن الاستطاعة حاصلة اما لي أو لك أيها الشخص الثاني أو لك أيها الشخص الثالث ...... وهكذا اذ من البعيد أنه لا يستطيع أحد في بلادنا بل حتماً يوجد مستطيع فيه ولكن مثل هذا العلم الاجمالي ليس منجزاً فان المنجز هو العلم بالتكليف المتوجه اليَّ أنا المكلف أما أن يكون اما موجهاً اليَّ أو إلى غيري فهذا ليس علماً اجماليا بتوجه التكليف اليَّ وإنما هو شك بدوي وكل شك بدوي يمكن ارجاعه إلى العلم الاجمالي ولكنه علم اجمالي من حيث الصورة لا من حيث الروح ، فمثلاً في مسألة الثوب المشترك بين اثنين أقول ( اما أني يجب عليَّ غسل الجنابة أو يجب على صاحبي غسل الجنابة ) وهذا ليس علماً اجمالياً بل هو شك بدوي في توجه التكليف اليَّ . اذاً المهم هو العلم بتوجه التكليف اليَّ أنا المكلف لا العلم بتوجهه اليَّ أو الى صاحبي فانه شك بدوي.
 اذاً كلا الوجهين قابل للتأمل لما أشرنا إليه.
 وأما الاستثناء الثاني:- ما أفاده الشيخ النائيني فانه ذكر [1] ما حاصله:- ان الوصول إلى الحكم لو كان يحتاج إلى فحص بدرجة بسيطة كمن يشك في طلوع الفجر فيتكمن أن يطلع على ذلك برفع رأسه ويلاحظ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر - أو في زماننا يلاحظ الساعة - فانه حينئذ قال يلزم الفحص ولا يجوز استصحاب بقاء الليل وعدم النظر وذكر أن الوجه في ذلك هو أنه لا يصدق على مجرد رفع الرأس أو النظر بالعين إلى الساعة عنوان الفحص ، وهكذا يمكن تعميم ذلك إلى مسألة الاناء الذي لا ندري أنه ماء أو خمر ولكن بمجرد النظر إليه نعرف أنه خمر أو ماء فهنا أيضاً لا يجري أصل البراءة ، وهكذا في بقية الأمثلة التي هي من هذا القبيل.
 وفيه:- ان عنوان الفحص لم يرد في لسان الدليل حتى يقال بانصرافه عن مثل الحالة المذكورة وإنما هو احتمال نحن نحتمله - أي نحتمل أن الفحص والبحث لازم ويكون ذلك تقييداً في لسان الدليل - ولكن بالتالي لا يصير لسان الدليل مقيداً بعنوان الفحص حتى يقال هو منصرف عن ذلك بل ذلك الاطلاق يمكن أن نتمسك به حتى لمثل النظر إلى الساعة أو إلى السماء فنقول ان دليل الاستصحاب أو دليل البراءة مطلق ولم يقل ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون بشرط تعذر النظر إلى السائل وتعذر التعرف على أنه خمر ) كلا بل هو مطلق من هذه الناحية - أي حتى بمقدار فتح الضياء الذي لا يصدق عليه الفحص - فحتى بلحاظ هذا المقدار يوجد الاطلاق فالإطلاق الذي نفينا به لزوم الفحص هو بنفسه ننفي به هذا المقدار أيضاً ، فالنص مطلق من هذه الناحية أيضاً ، أي لم يقل رفع عن أمتي ما لا يعلمون بشرط تعذر فتح الضياء أو النظر إلى السائل ، أو لا تنقض اليقين بالشك هو مطلق أيضاً ولم يقل بشرط تعذر رفع الرأس إلى السماء فان الاطلاق الذي ننفي به لزوم الفحص هو بنفسه نتمسك به لنفي لزوم هذا المقدار من الفحص القليل أيضاً.
 والخلاصة:- هذا البيان ليس بتام
 والانسب له أن يوجّه المطلب الذي ذكره بما يلي:- ان لسان الدليل قال مثلاً ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ومثل هذا الشخص الذي يمكن أن ينظر إلى السائل ويعرف بسرعة أنه ماء أو خمر هو ليس من مصاديق غير العالم وإنما هو من مصاديق العالم بحال السائل عرفاً ، وهكذا بالنسبة إلى رفع الرأس والنظر إلى السماء فان مثل الشخص المذكور عالم وليس بشاك ، فلو كان الشيخ النائيني(قده) يستند إلى هذا البيان لكان ذلك أوجه مما ذكره.
 نعم من حقك أن تناقش وتقول:- لا أسلم أن مثله يصدق عليه عنوان العالم إذ هو بعد يصدق عليه عنوان غير العالم.
 قلت:- نعم هذه المناقشة حق لك ولكن بالتالي يكون التوجيه بهذا الشكل أولى وأجدر من التوجيه الذي ذكره(قده) فان ما ذكره لا يقوم على سندٍ علمي بعد اتفاقنا على أن الأدلة ليست مقيدة بعنوان الفحص أو عدم الفحص.
 وأما الاستثناء الثالث:- قد يقال ان هناك موارداً يهتم بها الشارع من قبيل الدماء أو الفروج أو الأموال وصار ذلك مطلباً معروفاً بين الفقهاء وفي مثل ذلك لا يجري أصل البراءة قبل الفحص ، فلو فرض أني شككت في أن هذه المرأة زوجتي حتى يجوز النظر إليها أو أجنبية حتى لا يجوز النظر إليها ، أو بالنسبة إلى الجماع ان كانت زوجة فيجوز والا فلا ؟ فلا يجوز في مثل ذلك اجراء أصل البراءة عن الحرمة إذ الشارع يهتم بمسألة الفروج ، وهكذا لو فرض أني وجدت طعاماً ولا أدري هل هو لي أو هو ملك للغير ؟ فلا يجوز تطبيق ( كل شيء لك حلال ) أو ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) وتناوله ، وهكذا لو فرض وجود شخص نحتمل أنه هو الذي ارتد - والمرتد يجوز قتله أو لا ؟ فلا يجوز اجراء البراءة عن حرمة القتل إذ الشارع يهتم بمسألة الدماء.
 إذن قد يخطر إلى الذهن بأنه في مثل هذه الموارد - التي يوجد فيها اهتمام من للشارع - لا يجوز تطبيق أصل البراءة قبل الفحص بل لابد من الفحص والتأكد في المرحلة الأولى.


[1] فوائد الاصول 4 302.