الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
ونلفت النظر إلى أننا في هذا الوجه لا نستعين بالنصوص الدالة على وجوب التعلم كلا فان ذلك وجهٌ مستقلٌ سوف يأتي انشاء الله تعالى وإنما نريد أن نقول:- إذا جاز إجراء البراءة قبل الفحص فمجموع الشريعة سوف يرجع إلى حكم واحد والـذي هـو فـي روحـه ليـس بحكـم وهـو ( ليس عليك شيء ) . هكذا قد يستدل على وجوب الفحص.
وفيه:- ان هذا وجيهه لو فرض عدم وجود علم إجمالي بثبوت مجموعة من الاحكام والحال أن كل مكلف هو في بداية أمره وبلا حاجة إلى فحص وتعلّم يعلم بثبوت مجموعة أحكام الزامية في الاسلام إذ لا يحتمل أن شريعة الاسلام ليس فيها أحكام الزامية والّا فهي شريعة مضحكة للثكلى ، ومع وجود هذا العلم الإجمالي لا يلزم ما ذكر من رجوع روح الاسلام إلى حكم واحد - وهو أنه لا شيء عليك ما دمت تشك في الحكم كلا فانه يلزم ذلك لو كان هناك شكّ من دون علم إجمالي وحيث أن العلم الإجمالي موجود جزماً لكل إنسان فلا يلزم ما ذكر .
والى الآن عرفنا أربعة وجوهٍ لإثبات وجوب الفحص وقد اتضح أنها قابلة للمناقشة بشكل وآخر ومن الآن سوف نذكر وجوهاً ثلاثة لإثبات وجوب الفحص أيضاً ولكنها وجوهٌ تامة ويمكن قبولها وهي:-
الوجه الأول:- التمسك بفكرة القصور في المقتضي ، بمعنى أن ندعي أن أدلة البراءة هي من البداية قاصرة عن إثبات البراءة في حالة عدم الفحص ، يعني أنها لا إطلاق فيها من البداية وإنما إطلاقها شكلي والا فواقعاً لا يوجد فيها إطلاق ، وما دام لا يوجد فيها إطلاق فلا حاجة إلى التفتيش عن مقيّد لها ، أما كيف ذلك ؟ هو ببيان:- ان المولى حينما يشرع أحكاماً معيّنة فلابد وأن يكون مهتمّاً بها إذ لو لم يكن كذلك لما شرّعها ، فنفس التشريع يدل على أنه يهتم بها وما دام يهتم بها فهو يريد الفحص عنها قبل إجراء البراءة إذ لو لم يُرِد الفحص وكان يرضى بإجراء البراءة من دون فحصٍ كان ذلك خُلف اهتمامه بها ، ثم نقول:- والمولى انما لم يقيّد نصوص البراءة بحالة ما بعد الفحص لوضوح هذا المطلب في وسط من يتكلم معه وهذا الوضوح يصير بمثابة القرينة اللبيّة المتصلة ومع وجودها لا ينعقد إطلاق من البداية.
وإذا أراد شخص أن يشكك في هذه القرينة ويقول:- اني لا أجزم بكون المولى المتكلم قد اعتمد على هذا الوضوح - أي لا أجزم بوجود هذا الوضوح وإنما هو مجرد احتمال -.
أجبنا:- بأنه يكفينا احتمال وجود الوضوح الذي اعتمد عليه المتكلم فانه يرجع إلى احتمال وجود القرينة المتصلة وفي مثل هذا المورد - أي الذي يحتمل فيه وجود القرينة اللّبيّة المتصلة - ندعي كبرى وقضية كلية وهي أن انعقاد الإطلاق مشروط بعدم احتمال وجود القرينة المتصلة اللبيَّة . نعم احتمال القرينة المنفصلة لا يضرّ ولكن المتصلة اللبية - ونقيد باللبية - فهي تؤثر في انعقاد الإطلاق أما القرينة المتصلة اللفظية فأيضاً يمكن أن نقول هي لا تؤثر - فمتى ما احتملنا أن المتكلم تكلم بكلام واحتملنا - بشرط أن يكون الاحتمال وجيهاً - أنه حينما أطلق اعتمد على الوضوح - أي على القرينة اللبية المتصلة - وإنما لم تنقل لأنها لبيّة لا تحتاج إلى نقل بخلاف اللفظية فانها تحتاج إلى نقل
[1]
، فما دمنا نحتمل وجود قرينة لبيّة متصلة وكان الاحتمال بدرجة عقلائية معتدّ بها فهنا لا ينعقد الإطلاق ومستندنا فـي ذلك العقـلاء ، فلـو فـرض أن المولـى قـال ( ساعد الفقراء ) وفرضنا أنه جاءنا فقير ولكن كان منحرفاً ناصبياً سارقاً فهل يشمله الحكم ؟ فهنا لا نتمسك بالإطلاق ونقول ( ان المولى أطلق فيشمله الحكم ) وهذا من باب وضوح المطلب.
إذن نخرج بهذه القضية المهمة
[2]
:- وهي قضية واضحة ينبغي الالتفات إليها هي أنه بناء على هذا لا يمكن التمسك بإطلاق أدلة البراءة لاحتمال القرينة اللّبية المتصلة وهي الوضوح التي أشرنا إليه.
وقد عرفت أن هذا البيان الذي ذكرناه مركّب من عدَّة مقدمات فلابد من ملاحظتها بأجمعها ، وأهم هذه المقدمات هي هذه الأخيرة التي وهي أن الإطلاق لا ينعقد في مورد احتمال وجود القرينة اللّبيّة المتصلة ، فانه إذا قبلنا هذه المقدمة يتم هذا البيان . هذا كله في هذا الوجه ولا يخفى لطفه ووجدانيته.
الوجه الثاني:- التمسك بنصوص وجوب التعلّم حيث ورد في بعض الآيات أو الروايات أن تعلم الاحكام شيء لازم من قبيل قوله تعالى ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) والمقصود من قوله ( ليتفقوا في الدين ) أي ليتعلموا أحكام الدين وهذا معناه أن تعلّم الاحكام لازم وإنما وجبت الهجرة كمقدمة لحصول التعلّم فتعلّم الاحكام لازم إذن.
وايضا دلت على ذلك بعض النصوص من قبيل الرواية الوارد في تفسير قوله تعالى
( فللّه الحجة البالغة ) فانه ورد في تفسيرها
[3]
أنه
( يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له هلّا عملت ؟ فيقول:- اني لم أعلم فيقال له:- هلّا تعلمت ؟ وهذا هو معنى " فلله الحجة البالغة " ) يعني بالتالي أن العبد يسقط ما في يده ولا يستطيع الدفاع عن نفسه ، وهذه أيضا تدل على لزوم التعلّم وأن العبد يؤاخذ على عدم عمله الناشئ من عدم تعلّمه ، وإذا وجب التعلّم فذلك معناه أن البراءة لا تجري قبل الفحص إذ لو كانت تجري قبل الفحص فلا حاجة إلى الهجرة وتعلّم الأحكام فان وجوب التعلّم يعني بالعبارة الواضحة أن البراءة لا تجري قبل الفحص ، وهذا مطلب واضح وقد أشار إليه الشيخ الأعظم في الرسائل ولعله مذكور في الكفاية أيضاً.
[1]
وهذا هو الفارق بين اللفظية واللبيّة.
[2]
وهذه مسألة ذكرناها في باب الإطلاق.
[3]
على ما جاء في البحار 2 92.