الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
الاعتراض الثاني
[1]
:- وحاصله:- ان الفقيه بعد أن عثر على مقدار المعلوم بالإجمال - يعني بعد أن عثر على مائة تكليف - فسوف ينحل علمه الإجمالي ويزول حتماً ، وبعد أن زال فلا موجب للفحص عن الباقي والحال أن الفقهاء يلتزمون بأن الفحص في الباقي شيء لازم !! فأي مسألة طرأت على الفقيه فهو لا يجري فيها أصل البراءة إلا بعد الفحص والحال أن العلم الإجمالي هو منحلّ حتماً بسبب العثور على مقدار المعلوم بالإجمال.
وفرق هذا الاعتراض عن سابقه:- هو أنه في الاعتراض السابق كان لا يدعى الانحلال بنحو الجزم بل كان يُردد ويقال ( ان قلنا بالانحلال فلا موجب للفحص في الباقي وان لم نقل بالانحلال فللازم الرجوع إلى الاحتياط دون البراءة ) فهناك لم يجزم بالانحلال بل رُدّد بين الاحتمالين وأريد من وراء الترديد بيان وقوع التهافت بين موقفين للأصوليين ، أما في هذا الاعتراض فلا يراد تسليط الأضواء على التهافت بين المطلبين بل يراد بيان واقع الحال وأنه يشهد بتحقق الانحلال فان الفقيه يجلس في مكتبته مثلاً ويمكنه أن يعثر على المعلوم بالإجمال من دون أن يذهب ويفحص في الكتب بل وهو جالس في مكانه - وبمجرد الالتفات لفترة قصيرة لدقيقة أو دقيقتين يلتفت إلى مائة تكليف فينحل عنده العلم الإجمالي فلا موجب للفحص في الباقي .
إذن النتيجة على ضوء هذا الاعتراض الثاني هي أن العلم الإجمالي الذي أبرز في الوجه الثالث منحلّ ومعه فلا موجب للفحص.
و ذكر الشيخ النائيني(قده)
[2]
انه يمكن أن يقال بعدم الانحلال وحاصل ما ذكره انه قال:- ان معلومنا الإجمالي - أعني وجود مائة تكليف في دائرة الشبهات الألف - تارة نفترض أنه ليس معلّماً بعلامة وأخرى نفترض أنه معلّم بعلامة معيّنة ، فان لم يكن معلّماً بعلامة - كما لو كنّا نعلم بوجود مائة تكليف من دون أي علامة خاصة ثم عثرنا بعد التأمل القليل ونحن جالسون في المكتبة على مائة تكليف - فهنا ينحلّ العلم الإجمالي إذا المفروض أن معلومنا ليس معلّماً بعلامة فيحصل الانحلال ، وبالتالي يكون اعتراض الشيخ انصاري تامّاً.
وأما إذا كان معلّماً بعلامة كما هو الصحيح
[3]
حيث أنّا نعلم بوجود مائة تكليف في دائرة أخبار الكتب الأربعة - يعني أن معلومنا الإجمالي معلّم بكون تلك الاحكام ثابتة في دائرة أخبار الكتب الأربعة - فانه بناءً على هذا سوف لا ينحلّ علمنا الإجمالي عند العثور على مائة تكليف فان الذي نعثر عليه هو مائة تكليف من دون أن يكون معلّماً بعلامة كونه في الكتب الأربعة بل قطعنا بمائة تكليف بشكل كليّ ، أي قطعنا بأن السرقة حرام والكذب حرام ...... وغير ذلك أما أن ذلك موجودٌ في الكتب الأربعة فلا نجزم به وبالتالي لا نجزم بانطباق معلومنا الإجمالي على معلومنا التفصيلي فلا يحصل الانحلال وشرط الانحلال هو الجزم بانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي.
ثم استشهد بشاهد على هذا المطلب وقال:- لو فرض أني أعلم بكوني مشغول الذمة لشخصٍ ولكن لا أدري هل هي ثلاثة دراهم أو خمسة ولكن لو رجعت إلى الطومار
[4]
لوجدت المقدار مسجّلاً فيها وعرف أنها خمسة أو ثلاثة غير أني أريد أن أقول - من دون أن أراجع الطومار - هل ذمتي مشغولة بثلاثة أو خمسة والقدر المتيقن هو الأقل - أي الثلاثة - والزائد أجري فيه أصل البراءة ، فهل يجوز لي ذلك ؟ كلا ان العرف والعقلاء يرفضون ذلك ، وهذا شاهد أتى به(قده) على أنه ما دام المعلوم بالإجمال معلّم بعلامة - وهو أنه موجود في الطومار - فحينئذ لا يجوز تطبيق أصل البراءة بل لابد من الفحص ، وهنا أيضا فانه ما دام معلومنا الإجمالي معلّماً بعلامة فلابد من الفحص بلحاظ تلك العلامة ، أي لابد وأن نراجع الكتب الأربعة ونعثر من خلال مراجعتها على مائة تكليف فانه آنذاك ينحلّ علمنا الإجمالي لا أنه ينحل بالعثور على مائة تكليف ولو في غير الكتب الأربعة.
إذن الشيخ النائيني أفادنا فائدتين:- الأولى:- ان معلومنا الإجمالي معلّم بعلامة وهو كون المائة موجودة في الكتب الأربعة.
والثانية:- انه متى ما كان المعلوم الإجمالي معلّماً بعلامة فلابد من الفحص بلحاظ تلك العلامة ولا يكفي العثور على مقدار المعلوم بالإجمال من دون ملاحظة تلك العلامة واستشهد لذلك بمثال الطومار.
وفيه:- ان ما أفاده(قده) من كبرى - وهي أن المعلوم الإجمالي إذا كان معلّماً بعلامة فلابد من أن يكون المعلوم التفصيلي واجداً لها فانه آنذاك يحصل الانحلال والّا فلا يحصل - ينبغي أن ندخل عليها اصلاحاً وتقييداً وهو ( انه يلزم أن تكون تلك العلامة ممّا تشتغل بها الذمة ) أما إذا كانت العلامة سنخ علامةٍ لا تشتغل بها الذمة فوجودها كالعدم آنذاك . إذن هذه الكبرى ليست على عرضها العريض بل هي في دائرة محدودة وهي أن تكون تلك العلامة مما تشتغل بها الذمة.
ونأتي حينئذ إلى مقامنا ونقول:- صحيح أنّا نعلم بوجود مائة تكليف وصحيح نعلم بأن هذه المائة موجودة في دائرة أخبار الكتب الأربعة ولكن صفة كونها في الكتب الأربعة ليست صفة تنشغل بها الذمة وإنما هي صفة واقعية - أي أن الواقع كذلك - من دون أن تنشغل بها الذمة فانه لا معنى لانشغال الذمة بهذه الصفة بل هو من مضحكات الثكلى ، وعليه فمتى ما عثرنا على مائة تكليف فسوف ينطبق عليها ذلك المعلوم الإجمالي الذي اشتغلت به الذمة انطباقاً جزمياً إذ الذي اشتغلت به الذمة هو مائة تكليف من دون قيد كونها في الكتب الأربعة فان هذا القيد كما قلنا لا تشتغل به الذمة والذي اشتغلت به الذمة هو تلك التكاليف لا أكثر والمفروض أننا قد عثرنا على مائة تكليف فما عثرنا عليه هو مصداق للمعلوم بالإجمال بنحو الجزم واليقين بعد أن نلغي تلك الصفة عن الاعتبار إذ هي ليست من الصفات التي تشتغل بها الذمة فالانحلال يكون قهري لفرض كون الانطباق جزمي.
وأما مثال الطومار - والذي قد يسجّل كوجهٍ داعمٍ لما أفاده(قده) باعتبار أنه يمكن أن يقول:- إذا كان لا يلزم الفحص في الكتب الأربعة بنكتة أن الذمة لا تنشغل بوصف كون التكاليف في الكتب الأربعة فيلزم أن نقول ذلك أيضاً في مثال الطومار فلا يلزم مراجعة الطومار وبالتالي نبني على أن الذمة منشغلة بثلاثة دراهم أي بالأقل بلا حاجة إلى مراجعة الطومار وهل تلتزم بذلك؟-
[1]
وهو للشيخ الأعظم في الرسائل أيضا وقد اشار إليه الشيخ الخراساني في كفايته.
[2]
فوائد الاصول 4 279.
[3]
وهذا كلام الشيخ النائيني(قده) .
[4]
والطومار:- والورقة ( اما ملفوفة أو غير ملفوفة ).