الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وقد يجاب عن ذلك:- بأن العلم الإجمالي باقٍ رغم العثور على مائة مورد تشتمل على تكاليف - ونؤكد أنه باقٍ بَعدُ - ولكن ما دامه باقياً فكيف نرجع إلى البراءة بعد الفحص والحال أن المناسب كما قال الاخباري الرجوع إلى الاحتياط بعد فرض بقاء العلم الإجمالي ؟ والجواب:- اننا نقول بالبراءة رغم بقاء العلم الإجمالي من جهة أن معلومنا الإجمالي معلَّم بعلامة خاصّة ، فانّا نعلم إجمالاً بثبوت مائة تكليف لو فحصنا عنها لعثرنا على أدلتها وأن العلامة هي ( لو فحصنا لعثرنا على أدلتها ) ، وعلى هذا الأساس نقول:- إذا فحصنا في هذه المسألة ولم نجد دليلاً على التحريم فسوف تخرج هذه المسألة عن الطرفيّة للعلم الإجمالي فحينئذ يكون الرجوع إلى البراءة من باب أن هذا المورد قد خرج عن الطرفيّة للعلم الإجمالي . إذن العلم الإجمالي باقٍ غايته يكون هذا المورد خارجاً عن كونه طرفاً له فتجري فيه البراءة ، نظير ما لو فرض أن نجاسة دمٍ قد وقعت في اناءٍ من أوانٍ عشرة وكان الجوّ مظلماً فيجب ترك الجميع للعلم الإجمالي ولكن لو جاء الضياء ونظرنا في اناءٍ منها فرأينا أن لونه لم يتغير ومن الواضح أنه لو كانت القطرة قد وقعت فيه فلونه سوف يصير مائلاً إلى الحمرة فيخرج آنذاك من الطرفية للعلم الإجمالي وتصير الاطراف هي التسعة الباقية - هذا إذا لم نَرَ الأطراف التسعة الباقية والّا لو رأيناها فلعله يخرج طرف آخر ومثالنا من هذا القبيل. وهو جواب وجيه ، وقد أشار إليه الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل ايضاً وتبناه الشيخ العراقي(قده)
[1]
.
ولكن يرد عليه:- انه يتم لو فرض أن علمنا الإجمالي كان منحصراً في دائرة الأخبار ، ولكن يمكن أن يقول قائل بأن علمنا الإجمالي أوسع من ذلك ، فنحن نعلم بوجود محرمات واقعية صادقة في بعض دائرة الأخبار وهكذا في بعض دائرة الشهرات التي نبني على عدم حجّيّتها ، فليس بعض الاخبار بالخصوص هو المطابق للواقع ويشتمل على حُرُمات واقعيّة بل بعض موارد الشهرات كذلك أيضاً فليست كل الشهرات التي بين الفقهاء مخالفة للواقع ولا يوجد فيها شهرة ولو واحدة مطابقة له فانه هذا شيء بعيد بل ان بعضها يمكن الجزم بأنه مطابق للواقع ، وعلى هذا الأساس يلزم أن نفحص في دائرة الأخبار وفي دائرة الشهرات أيضاً فإذا لم نجد خبراً يدل على الحرمة في هذا المورد ولا شهرةً كذلك تمكنّا آنذاك من الرجوع إلى البراءة لخروج هذا المورد عن الطرفيّة للعلم الإجمالي. وأما إذا كان فيه خبرٌ أو شهرةٌ فلا تجري آنذاك البراءة.
ولعلك تقول:- فلنقل كذلك ، أي إذا لم يوجد خبر أو شهرة فلنرجع إلى البراءة وإذا لم يوجدا فلا نرجع إليها.
والجواب:- ان لازم ذلك حجيّة الشهرة ، فتصير الشهرة كالخبر والمفروض أننا لا نبني على حجيتها ، يعني أن المفروض في سيرتنا أنه إذا لم يوجد خبر ثقة فنجري البراءة ولا نلتفت إلى مسألة الشهرة بينما على هذه الطريقة يلزم حجيّة الشهرة ، وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم أيضاً.
إذن هذا الجواب لا ينفع في دفع الاعتراض لأن لازمه حجيّة الشهرة كالخبر والحال أنا لا نلتزم بحجيّتها وإنما نكتفي بالفحص في دائرة الأخبار ، نعم من يلتزم بحجيّة الشهرات سوف ينفعه هذا الجواب ، وبهذا اتضح أن هذا الجواب عن أصل الاعتراض ليس بتام.
وقد يجاب:- بأن علمنا الإجمالي قد زال بعد العثور على مائة مورد تشتمل على الحرمة ، وإذا التزمنا بزوال العلم الاجمال فيرد الاشكال وأنه لماذا يجب الفحص في المسألة الأولى - أي حينما نريد إجراء البراءة فلابد أوّلاً أن نفحص عن وجود نصٍّ على الحرمة فإذا لم نجد فآنذاك نجري البراءة - فلماذا تفحص أوّلاّ حتى تجري البراءة ؟ فان العلم الإجمالي إذا فرض زواله فيصح لك أن ترجع إلى البراءة من دون حاجة إلى فحص.
وفي هذا المجال يقال:- اننا نلتزم بالفحص رغم أنه لا علم إجمالي من جهة أن أصل البراءة لا يكون حجّة إلا بعد الفحص فحجيّته مقيدة ببعدية الفحص من البداية ولا يجري قبل الفحص ، يعني أن العقل يقول ( الشبهة قبل الفحص هي مورد للأصل المنجّز وليست مورداً للأصل المؤمّن ) وإنما يجري الأصل المؤمّن - أعني أصل البراءة - إذا فحص الفقيه ولم يجد دليلاً على الحرمة.
وبكلمة أخرى:- ان نفس أصل البراءة هو قاصر من حيث المقتضي وضيّق في دائرة محدودة وهي دائرة ما بعد الفحص وحجيّته مختصّة بما بعد الفحص ، وحينئذ لو فحص الفقيه فلم يجد دليلاّ على الحكم فيجري آنذاك أصل البراءة ولا يعارض ذلك بأصل البراءة في المورد الثاني والثالث فانه في تلك الموارد حيث أنه لم يحصل الفحص ولم يتمّ فقابلية جران أصل البراءة غير موجودة فلا تتحقق المعارضة فيجري الأصل في مورد الفحص من دون معارضة بالأصل في غير مورد الفحص ، وقد تبنى هذا الجواب على ما يظهر الشيخ العراقي والسيد الخوئي.
وفرق هذا الجواب عن الجواب السابق:- هو أن الجواب السابق كان يقول:- أن العلم الإجمالي بعد العثور على مائة مورد هو باقٍ وليس بمرتفعٍ ، وكان يُشكل عليه:- بأنه إذا كان باقياً فكيف ترجع إلى البراءة بعد الفحص بل يلزم أن ترجع إلى الاحتياط ، فأجاب:- بأن معلومنا الإجمالي مُعلّم بعلامة ... الخ ، وأما في هذا الجواب فيقال:- ان العلم الإجمالي بعد العثور على مائة مورد قد زال ، وكنّا نقول له:- إذا زال العلم الإجمالي فما الداعي إلى الفحص في المسألة الأولى بل نرجع إلى البراءة من دون حاجةٍ إلى الفحص ، واجاب:- بأن أصل البراءة هو في حدّ نفسه مختصٌّ بحالة ما بعد الفحص وأما قبل الفحص فهو ليس بقابلٍ للجريان في حدِّ نفسه.
والاشكال عليه واضح:- فانه قيل في هذا الجواب ( ان أصل البراءة هو لا يجري في حدِّ نفسه إلا بعد الفحص ) يعني هو قاصر من حيث المقتضي ، ونحن نقول:- هذا عين المتنازع فيه ، فنحن نقول:- هو ليس بضعيفٍ بعد إطلاق حديث الرفع والمفروض أن العلم الإجمالي الذي كان مانعاً من العمل بالإطلاق قلت أنت أنه ليس بموجودٍ فلا ضعف في أًصل البراءة فيكون هذا الجواب موهونٌ كما هو واضح.
[1]
نهاية الافكار 3 472 .