الموضوع / نهاية التنبيه السابع من تنبيهات الدوران بين الأقل والأكثر ، ضابط مورد البراءة والاشتغال / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
نعم ما ذكره الشهور يتم في المحصل العرفي.
ومثاله:- ما إذا فرض أن الشارع أوجب علينا قتل المفسد في الأرض كما هو واقع ( أن يُقتَّلوا أو يُصلّبوا ) فانه أمرنا بالقتل والمحصِّل للقتل شيء عرفيّ وليس أمراً شرعياً إذ القتل قضية عرفيّة لا يُرجّع بها إلى الشرع ، وهكذا سببها فهو أمرٌ عرفيٌ لا يُرجَع فيه إلى الشرع ، فالذي يدخله الشارع في ذمتنا هو القتل فقط لا القتل من سببٍ خاصٍ إذ ذلك خلف فرض كونه أمراً عرفياً يرجع فيه إلى العرف ، هنا يتم ما ذكره المشهور ، فالذمة مشتغلة بالقتل بلا تقيّد بالسبب فإذا شُك أن موت الدماغ مع تحرّك القلب هل هو قتلٌ أو ليس بقتلٍ ؟ فهنا لابد من الاشتغال فان الذمّة قد اشتغلت بالنتيجة وهي القتل لا النتيجة من سببٍ خاص - أي من هذا السبب أو ذاك - أي أن حيثية السبب لم تدخل في الذمّة فيلزم إحراز تلك النتيجة ولا إحراز لها إلا إذا فرض أنه مات الدماغ ومات القلب.
إذن ينبغي التفصيل بين ما إذا كانت النتيجة المسببّة نتيجة شرعيّة وسببها سبب شرعي وبين ما إذا كانت النتيجة نتيجة عرفيّة والسبب سبب عرفيّ ، والاحتياط الذي ذهب إليه المشهور يتمّ في الثاني دون الأوّل - الذي هو المهم في محل الكلام - لأنه عادة يكون حديثنا في المسببات الشرعية كالطهارة وما شاكها. هذا كله بالنسبة إلى هذا التنبيه.
وقبل أن نختم حديثنا نشير إلى هذا المطلب:- وهو أنا ذكرنا في بداية هذا التنبيه مثال الوضوء والغسل والتيمم وقلنا إن فيه احتمالين
[1]
الأول هو أن يكون الواجب في ذلك هو نفس الغسلات والمسحات فيكون المورد من الشك بين الأقل والأكثر في باب الواجب دون المحصّل ، والثاني وهو أن يكون الذي اشتغلت به الذمة هو الطهارة المسببَّة فيكون المحصِّل دائراً بين الأقل والأكثر دون نفس الواجب.
والآن أريد أن أقول:- يوجد احتمال ثالث وهو أن يكون الواجب هو الطهارة ولكن لا الطهارة المسببّة عن الغسلات والمسحات بحيث تكون هناك مغايرة بين الطهارة وبين الغسلات والمسحات فالطهارة مسبّبٌ والغسلات والمسحات سببٌ وأحدهما مغاير للآخر ، كلا بل يوجد احتمال ثالث وهو أن يكون الواجب هو الطهارة المنطبقة على الغسلات والمسحات لا المسببّة عنهما بحيث يكون لها وجود مغاير بل هو الطهارة المنطبقة والمتحدة مع الغسلات والمسحات.
ولا تقل:- إن هذا شيء مستحيل فانه يلزم اتحاد البسيط مع المركب وقد قرأنا أن ذلك شيء غير ممكن.
فأجيبك:- بأن الطهارة أمر اعتباري وليست أمراً تكوينياً حتى يلزم ما ذكر.
والمسألة من هذه الناحية - وهي أنه أي الاحتمالات الثلاثة هو الصحيح - متروكة إلى ذمة الفقه وهنا نريد أن نتكلم عن النتيجة بلحاظ كل احتمال ، والسؤال هو:- انه بناءً على هذا الاحتمال هل المناسب هو الاشتغال أو هو البراءة ؟
وواضح أن هذا السؤال لا يطرح علينا - نحن الذين نبني على البراءة في مسألة الشك في المحصّل - إذ من الواضح أن الحكم عندنا واحدٌ سواء كان التردد في الواجب أو كان في المحصّل وذلك الحكم الواحد هو البراءة ، وإنما يطرح على المشهور فما هو المناسب ؟ إن المناسب هو البراءة ، باعتبار أن الطهارة حينما اتحدت مع الغسلات والمسحات ولم يكن لها وجود مغاير لوجود الغسلات والمسحات فالشك في الحقيقة سوف يصير شكاً فيما اشتغلت به الذمة فان ذلك هو لازم الاتحاد ، فبالتالي سوف يشك المكلف في أن ذمته هل اشتغلت بالطهارة المنطبقة على تسعة أجزاء أو بالطهارة المنطبقة على العشرة ، فالتردد ترددٌ في أصل ما اشتغلت به الذمة.
والخلاصة:- انه في باب الغسل والوضوء والتيمم توجد احتمالات ثلاثة ، فان بُني على أن الواجب هو الغسلات والمسحات فذلك يعني أن التردد تردد بين الأقل والأكثر في الواجب وقد اتفقت الكلمة على البراءة ، وأما إذ بني على أن الواجب هو الطهارة المسببّة فالمعروف هو الاشتغال ، وأما إذا بُني على أن الواجب هو الطهارة المتّحدة مع الغسلات والمسحات فالمناسب هو البراءة.
وبهذا ننهي حديثنا عن التنبيهات المذكورة ، وبقي علينا أن نبحث عن ضابط مرد البراءة والاشتغال.
ضابط مورد البراءة والاشتغال
عرفنا مما سبق أن ضابط البراءة هو الشك في أصل التكليف فمتى ما شككنا في أصل التكليف فالوظيفة هي البراءة ، بينما ضابط الاشتغال هو الشك في المكلف به أو بالأحرى في الامتثال ، وهذا الضابط بنحو القضية الكلية شيءٌ واضح لا خفاء فيه وقد اتفقنا عليه ، ولكن أحيانا يحصل خفاءٌ من حيث الصغرى ، يعني أن الشك في هذا المورد هو شك في أصل التكليف أو هو شك في المكلف به أو بالأحرى شك في الامتثال فالخفاء قد يتحقق من حيث الصغرى ، كما إذا فرض أن المولى قال ( أكرم العالم ) وشككنا في شخص أنه عالمٌ أو ليس بعالمٍ فهل هذا من الشك في أصل التكليف حتى نرجع إلى البراءة أو من الشك في المكلف به وفي الامتثال حتى نرجع إلى الاشتغال ؟ انه قد يحصل خفاء من هذا القبيل . وكما هو الحال في مثال ( لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ) فانه لو شككنا في كون هذا الحزام أو الثوب هل هو من حيوانٍ يؤكل لحمه أو من حيوان لا يؤكل لحمه ؟ إن ذلك الشك هل هو من الشك في أصل التكليف أو من الشك في المكلف به ؟
وفي هذا المجال نقول:- كل تكليفٍ هو عادةً يتركب من أمور ثلاثة القيد أو ما يعبَّر عنه بـ( الشرط ) ، والمتعلق ، والموضوع.
والفارق بين المتعلّق وبين الموضوع قد أشرنا إليه في مقدّمة دورتنا الأصولية ، وهكذا أشرنا إليه في بعض الأبحاث وحاصله:- إن الشيء إذا فرض أن الحكم كان يدعو إلى تحقيقه أو يدعو إلى ترك تحقيقه فذلك الشيء يسمى بالمتعلّق ، أما إذا كان لا يدعو إلى تحقيقه أو ترك تحقيقه بل فرض أنه على تقدير تحققه يثبت آنذاك الحكم فذلك يصطلح عليه بالموضوع من قبيل ( حرم شرب الخمر إذا كان الشخص بالغا عاقلاً ) ففي هذا المثال يكون البلوغ والعقل قيداً في الحكم ، أي أن الحرمة تثبت على تقدير تحقق البلوغ والعقل ، وأما الشرب فهو متعلّق لأن الحرمة تدعو إلى الهجر والزجر عنه ، وأما الخمر الذي هو متعلّق المتعلّق فهو موضوعٌ ، أي أن الحكم لا يقول أوجد الخمر أو لا توجده وإنما يقول لو فرض أن هناك خمراً فآنذاك أنا أدعوك إلى اجتنابه وهجره والزجر عنه فيصير الخمر موضوعاً ، أي لابد من فرضه وتحققه في البداية وآنذاك يثبت الحكم.
ونتمكن أن نقول:- إن جميع قيود الحكم ترجع إلى الموضوع من حيث الروح وان كانت بحسب المصطلح تسمى بالقيود ولكن روحاً كل قيد للحكم - أي لذات الوجوب أو لذات الحرمة - هو موضوع ، فالبلوغ والعقل هما موضوع فانه يلزم أن نفترض تحقق البلوغ والعقل وآنذاك يثبت الحكم بالحرمة ، فهما بحسب الصياغة وان كانا قيدين ولكنهما بحسب الروح موضوعان ، فكلّ قيدٍ للحكم هو بحسب الروح موضوع .
وذا اتضح هذا المطلب فحينئذ نقول:- الشك تارةً يكون في القيد وأخرى يكون في المتعلّق وثالثةً يكون في الموضوع.
[1]
وهذا مطلب ظريف وان كان خارجاً عن بحثنا الأصولي