الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/05/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه السابع / تنبيهات / الدوران بين الأقل والأكثر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 التنبيه السابع:- الدوران بين الأقل والأكثر في المحصل.
 تارة يكون الدوران دوراناً بين الأقل والأكثر في الواجب وأخرى يكون بلحاظ المحصل:-
 أما ما كان دوراناً في الواجب فهو كما تقدم ، فان جميع ما تقدم كان ناظراً إلى ذلك فكنّا نقول ( إذا شككنا في أن الواجب في باب الصلاة هل هو عشرة أجزاء أو تسعة ؟ ) فهذا دوران بين الأقل والأكثر في نفس الواجب ، وقد تقدم أن فيه آراءً ثلاثة.
 وأما الدوران بين الأقل والأكثر في المحصّل فيقصد منه أن نفس الواجب لا يدور أمره بين الأقل والأكثر وإنما محصّل الواجب هو الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر.
 مثال ذلك:- باب الوضوء والغسل والتيمم ، فقد وقع كلام بين الفقهاء في أن الواجب في الأبواب المذكورة ما هو ؟ هل الواجب هو نفس الغسلات والمسحات أو أن الواجب هو الطهارة المسببة عن الغسلات والمسحات ؟ فالغسلات والمسحات ليست هي نفس الواجب وإنما هي تحصّل الواجب - أعني الطهارة المسببة - .
 فان بنينا على الأول - أي أن الواجب هو نفس الغسلات والمسحات - وفرض أنا شككنا أن المضمضة لازمة أو لا ؟ فالدوران دورانٌ بين الأقل والأكثر في نفس الواجب.
 وأما إذا قلنا أن الواجب هو الطهارة المسبَّبة وهي كما نعرف شيءٌ بسيط لا يدور أمره بين القلّة والكثرة وإنما محصّلها وموجدها وسببها يدور أمره بين الكثرة والقلّة فعلى هذا الرأي يصير المورد المذكور مثالاً للأقل والأكثر بلحاظ المحصّل.
 والمعروف بين الأعلام في الدوران بلحاظ نفس الواجب كما قلنا هو آراء ثلاثة ، وأما بلحاظ المحصل فالمعروف رأيٌ واحد وهو الاشتغال . نعم ربما ينسب إلى لميرزا محمد حسن الشيرازي السامرائي إمكان جريان البراءة.
 أما كيف يوجَّه رأي المشهور القائل بالاشتغال ؟
 يمكن ذلك بعدة تقريبات:-
 التقريب الأول:- ما ربما يظهر من عبارة الشيخ الخراساني(قده) في الكفاية وحاصله:- إن الواجب الذي اشتغلت به الذمة هو شيء معلوم لا تردد فيه بين السعة والضيق فهو عبارة عن الطهارة وهي أمر بسيط ولا يتركب من أجزاء وإنما المحصّل يتردد أمره بين السعة والضيق والعقل في مثل ذلك يحكم بأنه يلزم الاحتياط إذ الذمة قد اشتغلت بذلك الأمر البسيط فيلزم تفريغها اليقيني ولا يحصل ذلك إلا إذا أتي بالسبب الأكثر والأكبر.
 وبكلمة أخرى:- انه فيما سبق كنا نفترض أن نفس الواجب - أو بالأحرى متعلّق الأمر - قد تردد بين أن يكون هو تسعة أو عشرة فيوجد مجال لأن نقول إن التسعة قد تعلق بها الأمر جزماً وأما ما زاد فنشك بتعلّق الأمر به فيرفع تعلّق الأمر بالجزء الزائد بحديث الرفع هذا إذا تردد نفس الواجب ، بيد أن المفروض في مقامنا هو أن نفس الواجب ليس فيه تردد فان الواجب هو الطهارة وهي لا تردد فيها بل هي بسيطة فما اشتغلت به الذمة لا تردد فيه حتى نطبّق حديث الرفع بل هو معلومٌ وهو شيءٌ بسيط - أعني الطهارة - والتردد هو في محصّله فيقول العقل ( يلزم أن تفرغ ذمتك مما اشتغلت به ) وقد اشتغلت بنحو الجزم بعنوان الطهارة ولا تجزم بتحقق العنوان المذكور إلا بالإتيان بالمحصّل الأكثر.
 إذن الفارق بين هذا المقام وبين المقام السابق هو أنه في المقام السابق كان نفس الواجب ومتعلّق الأمر مردداً بين السعة والضيق فكان يجري أصل البراءة بلحاظ الجزء المشكوك ، وأما هنا فنفس الواجب ومتعلّق الأمر لا تردد فيه فلا معنى لتطبيق حديث الرفع بل يصير المورد من موارد قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
 وفيه:- صحيح أن الذمة قد اشتغلت بعنوان الطهارة وهو أمر بسيط لا تردد فيه ولكن مع ذلك يمكن التمسك بحديث الرفع وذلك بأن نقول:- نحن نشك أن الذمة هل اشتغلت بالطهارة المسبّبة عن تسعة أجزاء أو بالطهارة المسبّبة عن عشرة أجزاء ؟ فان الشرع لم يكلفنا بالمسبّب بقطع النظر عن السبب - أي لم يكلفنا بالطهارة بقطع النظر عن المحصّل - فإن هذا لا معنى له إذ المفروض أن الطهارة هي مطلبٌ وحالةٌ شرعيةٌ ولا تُعرف إلّا من خلال الشرع فهو الذي يلزمه أن يحدّد الطريق المحصّل والموصل إلى تلك الطهارة ، فالذمة إذاً لا تشتغل بالطهارة بقطع النظر عن السبب بل هي مشتغلة بالطهارة من سببها وطريقها الخاص الشرعي ، وحينئذ نقول:- نحن نشك هل أن الذمة قد اشتغلت بالطهارة المسبّبة عن تسعة أجزاء أو المسبّبة عن عشرة أجزاء ، فبالتالي أمكننا أن نتصور الشك فيما اشتغلت به الذمة رغم أن الطهارة أمرٌ بسيط ، ومعه يمكن لنا أن نقول هكذا ( إن القدر المتيقن الذي اشتغلت به الذمة هو الطهارة المسبّبة عن تسعة أجزاء ) إن هذا شيء معلوم وجزمي وأما المسببة عن العشرة فنشك في اشتغال الذمة بها فنجري البراءة عن ذلك . إذن الشك متصورٌ وتطبيق حديث البراءة شيءٌ متصورٌ ، هكذا قل.
 أو قل بصيغة أخرى أو روح أخرى:- نسلّم أن الطهارة أمر بسيط وليس مركباً من أجزاء ولكن يمكن أن يكون للأمر البسيط مراتب ، فان البساطة تتنافى مع التركّب من أجزاء ولا تتنافى مع المراتب كالوجود أو كالنور فإنهما أمران بسيطان ولكن رغم ذلك يوجد عندنا وجود شديد ووجود ضعيف ونور قوي ونور ضعيف وبياض قوي وبياض ضعيف ...... وهكذا ، إذن البساطة تتلاءم مع التفاوت في المرتبة ، وعلى هذا الأساس نقول:- صحيح أن الطهارة أمر بسيط إلا أن الذي نجزم باشتغال الذمة به هو الطهارة بمرتبتها الدانية - يعني التي تحصل بتسعة أجزاء - وأما الطهارة بمرتبتها العالية - أي التي تحصل بعشرة أجزاء - فيشك في اشتغال الذمة بها فيطبق حديث البراءة ، وبهذا البيان يمكن أن نتصور التشكيك في الطهارة التي تشتغل بها الذمة رغم أنها بسيطة.
 التقريب الثاني:- ما أفاده الشيخ النائيني(قده) [1] وحاصله:- إن البراءة عن سببية الأكثر لا معنى لها فان الأكثر نجزم بسببيته لتحقق الطهارة الواجبة ، وأما سببية الأقل فانّا وان كنا نشك فيها ولكن لا يمكن إجراء البراءة عنها لأن لازم جريانها إدخال الضيق على المكلف - أي سوف لا يكتفى منه بالأقل بل لابد من الإتيان بالأكثر وهذا لازمه التضييق على المكلف دون التوسعة - وحديث الرفع وارد مورد الامتنان فلا يجري إذن لنفي السببية المذكورة ، وعليه فيلزم الاحتياط لعدم جريان البراءة بلحاظ هذا الطرف ولا بلحاظ ذلك الطرف.


[1] أجود التقريرات 2 - 178 ، فوائد الأصول 4 - 144 ، 169.