الموضوع / التنبيه الخامس / تنبيهات / الدوران بين الأقل والأكثر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
الحالة الثالثة:- الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الحجية.
كما لو فرض في باب التقليد وجود مجتهدين أحدهما أعلم من الآخر ، ووقع الكلام في أن تقليد الأعلم لازم ومتعيّن أو هو ليس بمتعيّن ؟ فهنا تارةً نستفيد من الأدلة كسيرة العقلاء أو غير ذلك تعيّن تقليد الأعلم ، فاذا استفدنا ذلك فبها ونعمت.
وأما اذا عجزنا عن اثبات ذلك بالدليل الاجتهادي وانتهت النوبة الى الأصل العملي فهو ماذا يقتضي ؟ وكلامنا هو هنا.
انه يوجد احتمالان:-
الأول:- احتمال أن الحجيّة متعينة في حقّ الأعلم.
والثاني:- احتمال أنها بنحو التخيير ، أي يجوز لك تقليد هذا أو تقليد ذاك.
فهنا دار الأمر بين التعيين والتخيير ولكن في باب الحجية ، والمناسب في مثل ذلك هو تعيّن الحجيّة في حقّ الأعلم ، فان الحجية تثبت لما يُقطَع بحجّيته ، وأما مشكوك الحجّيّة فنفس الشك يكفي لنفي الحجيّة من دون حاجةٍ الى دليل ، ولذلك قيل ان الشك في الحجّيّة يساوق القطع بعدم الحجّيّة ، والذي نقطع بحجّيّته حسب الفرض هو قول الأعلم وأما غير الأعلم فنشك في حجّيّته ويكفي الشك في حجّيّته لانتفاء الحجّيّة عنه أو للقطع بعدم حجيته.
ان قلت:- لماذا لا نجري أصل البراءة عن تعيّن الحجّيّة في قول الأعلم فان ذلك كلفة مشكوكة فننفيها بالبراءة ؟
قلت:- قد فرضنا أن الشك في الحجّيّة يساوق القطع بعدم الحجّيّة وهذا شيء قد فرغنا عنه ، وبعد القطع بعدم حجّيّته مع القطع بحجّيّة قول الأعلم - أي بعد هذين القطعين - لا معنى للرجوع الى أصل البراءة.
الحالة الرابعة:- الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال.
كما لو فرضنا أن وقت الصلاة قد حلَّ وكانت هناك نجاسة في المسجد فهذا واجب - أي أداء الصلاة - وذاك واجب - أي ازالة النجاسة - ولولا المزاحمة لكان كلّ منهما واجباً متعيّناً ولكن اذا ضاق الوقت ولم يسع لأدائهما معاً فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال بعد فرض أن دليل وجوبهما مطلقٌ وليس مختصّاً بحالة عدم المزاحمة فهنا تقع المزاحمة بين الامتثالين.
ومن هذا القبيل ما اذا رأينا شخصين على وشك الغرق وقدرة المكلف تضيق عن انقاذهما معاً بل يمكن له انقاذ أحدهما فقط ، فيدور الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير - أي بين تعيُّن انقاذ هذا أو ذاك وبين أن يكون مخيراً -.
ومن هذا القبيل ما لو فرض أنه دار الأمر بين انقاذ الغريق الواحد وبين أن يذهب الى الحج
[1]
، انه تزاحم بين التكليفين في مقام الامتثال فيدور الأمر بين التخيير وبين تعيّن أحدهما.
وفي هذه الحالة نقول:- ان فرض الجزم بأهميّة أحدهما بالنسبة الى الآخر فلا اشكال في تعيّنه ، كما لو فرض أن أحد الغريقين كان نبيّاً أو ما بحكمه ، وهكذا الحال لو فرض أن المكلف لم يجزم بكونه أهم ولكنه كان يحتمل ذلك فأيضاً يلزم تقديمه ويتعين انقاذه وتحصيله ، والوجه في ذلك هو حكم العقل فانه في مثل هذا المورد يحكم بلزوم تعيّن مجزوم أو محتمل الأهمية ، وأما اذا فرض الجزم بعدم التفاوت بينهما من حيث الأهمية أو فرض أن المكلف يحتمل أهمية هذا وكان يحتمل أهمية وذاك أيضاً فالمناسب هنا هو التخيير ، والوجه في ذلك واضحٌ فانه بعد عدم احتمال اهميتهما لا مناص من التخيير ، ولا وجه لتعيّن أحدهما بعد فرض أنهما من حيث احتمال الأهمية سواء . وبهذا ينتهي حديثنا عن هذا التنبيه الأول.
التنبيه الخامس:- الدوران بين الجزئية والمانعية.
أحياناً يدور الأمر في الشيء الواحد بين أن يكون جزءاً واجباً وبين أن يكون مانعاً محرَّماً.
ومثال ذلك:- مورد التردد بين القصر والاتمام ، كما لو شك في أن الوظيفة في هذا المورد المعيّن هي قصر الصلاة أو اتمامها وفرضنا أنه لا يوجد دليل اجتهادي يعيّن أحدهما كما لا يوجد أصل يقتضي تعيُّن القصر التمام ، ففي مثل ذلك ماذا ينبغي أن يكون الموقف ؟ كمن يقصد المسافة الشرعية ولكنها لا تساوي ثمانية فرسخ امتدادية بل أربعة ذهاباً واربعة اياباً ، فاذا كان ذهابه في اليوم الواحد فهذا لا اشكال في أنه يكفي ، أما اذا كان يذهب الآن أربعة فراسخ ويرجع بعد ثلاثة أيام مثلاً فهذا وقع محلاً للكلام وأن الوظيفة هي القصر أو الاتمام ؟ فان أمكن بالأدلة الاجتهادية اثبات أحد المطلبين فبها ونعمت ، ولكن اذا لم يمكننا ذلك وانتهى الفقيه الى الوظيفة العملية والأصل العملي فماذا يقتضي ، هل يقتضي القصر أو التمام أو التخيير ؟
أما بالنسبة الى الركعتين الأخيرتين فيدور الأمر بين كونهما جزءاً واجباً وبين كونهما مانعاً مبطلاً ، فان الوظيفة اذا كانت هي التمام فهما جزءاً وأما اذا كانت هي القصر فالإتيان بهما زيادة في الاركان وهي مبطلة ، وما هو المناسب في هذه الحالة ؟ المناسب هو الجمع بينهما - أي يلزم الاحتياط - اذ الذمة مشتغلة جزماً بإحدى الصلاتين ولا يمكن تشخيص أنها هذه أو تلك حسب الفرض فيلزم الاتيان بهما معاً ، ولا يمكن الاحتياط بفعل واحدةٍ كما كنا نقول ذلك في مسألة الشك في جزئية السورة - أي في التنبيه المتقدم - فانه هناك يمكن الاحتياط بفعل صلاة واحدة يؤتى بها مع السورة فإنها ان كانت واجبة فقد وقع المطلوب وان لم تكن واجبة فهي على الأقل مستحبة لا أنها مانعٌ مبطل ، فلذلك هناك كان يمكن الاحتياط بصلاة واحدة وكان هناك شيء يُجزم بوجوبه وهو التسعة ، وهذا بخلافه هنا فانه لا يوجد شيء يُجزم بوجوبه ولا يمكن الاحتياط بواحدة بل يتعيّن فعل كلتا الصلاتين ، وأصل البراءة عن جزئية الركعتين - أي الجزئية المشكوكة - معارض بأصل البراءة عن المانعية المبطلة ، فالنتيجة هي الاحتياط بفعلهما معاً ، وهذا مطلب واضح.
هذا ولكن الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل قال:- ان جريان أصل البراءة في المقام لا يلزم منه المخالفة العملية القطعية بل يلزم منه المخالفة الاحتمالية ، اذ المكلف لو أتى بالقصر فهو لا يجزم بالمخالفة لاحتمال أن القصر هي الوظيفة الواقعية ، ولو أتى بالتمام فالأمر كذلك ، فالمخالفة القطعية ليست ممكنة , ومعه لا مانع من جريان كلا الأصلين - يعني يجري أصل البراءة عن جزئية الركعتين وأصل البراءة عن مانعية الركعتين - وهذا مطلب قد أسّس في علم الأصول فانه ذُكر أن الاصول لا مانع من جريانها اذا لم يلزم من ذلك مخالفة قطعية عمليَّة.
وأجاب السيد الخوئي(قده)
[2]
في مقام مناقشة ما أفاده الشيخ الأعظم:- حيث يظهر منه هذا الطلب وهو أن المخالفة القطعية العملية شيء ممكن وذلك بأن يترك كلتا الصلاتين ، فنجري أًصل البراءة من جزئية الركعتين وأصل البراءة من مانعية الركعتين وبهذا يمكن تحقق المخالفة القطعية العملية وذلك بترك الصلاة ، وعليه فلا يجوز جريان كلا الأصلين لأن جريانهما سوف يؤدي الى المخالفة القطعية العملية.
وجوابه واضح اذ يقال:- صحيح أن المكلف لو ترك كلتا الصلاتين فقد حصلت منه مخالفة قطعية ولكنها لم تنشأ من جريان الأصلين فان الأصلين يجريان بلحاظ الركعتين الأخيرتين فأحدهما ينفي جزئيتهما والآخر ينفي مانعيتهما ، وأما بالنسبة الى الركعتين الأوليين فهما ساكتان عنهما ونعلم من الخارج بلزومهما جزماً وانما الشك بلحاظ الركعتين الأخيرتين ، فهذه مخالفة قطعية عمليَّة لم تنشأ من جريان الأصلين وانما نشأت من ترك ما نعلم بوجوبه قطعاً ، ومعه فلا يصلح هذا رداً على الشيخ الأعظم ، وبالتالي يبقى الاشكال الذي ذكره على حاله.
[1]
هذا مع فرض ضيق وقت الحج وحصول التزاحم مع الانقاذ للغريق.
[2]
مصباح الاصول 2 487.