الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/05/10

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه الرابع / تنبيهات / الدوران بين الأقل والأكثر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 والجواب:- المناسب هو البراءة عن خصوصية الاكرام ، فان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالجامع ويشك في تقيّده بخصوصية الاطعام فتنفى هذه لكلفة الزائدة بالبراءة ، وهذا مطلب ينبغي أن يكون واضحاً.
 بيد أن الشيخ الخراساني(قده) [1] ذكر أن الدوران لو كان بين العام والخاص فيلزم الاحتياط ولا تجري البراءة ، والوجه في ذلك:- هو أن في باب المطلق والمشروط تتحقق شرطية المشروط أو شرطية الشرط بالأمر - أي بأخذ خصوصية الشـرط في متعلق الأمـر فالمـولـى يأخـذ قـيد ( المؤمنة ) في متعلّق الأمر ويقول ( اعتق رقبة مؤمنة ) فانه بأخذ قيد الايمان في متعلق الأمر تتحقق شرطية الايمان ، ولولا أخذ شرطية الايمان في متعلق الأمر لما تحقق شرطية الايمان .
 اذن شرطية الايمان فرع تعلق الأمر بالشرط المذكور - أي بشرطية الايمان وبشرط الايمان - هذا بالنسبة الى شرطية المشروط.
 وأما بالنسبة الى خصوصية الخاص في باب الخاص والعام فيمكن أن نقول:- ان خصوصية الخاص هي ذاتية للخاص وليست منتزعة ومتفرّعة على الأمر ، يعني أن الاطعام هو خاصٌ وخصوصيته ذاتية له فهو أخصُّ من الاكرام والاكرام أعمّ منه وتلك العمومية في العام هي ذاتية للعام وهذه الخصوصية في الخاص هي ذاتية للخاص ، فالخاص خاص أمِرَ به أو لم يُؤمَر به والعام عامٌ أمِرَ به أو لم يُؤمَر به ، وعليه فعند الشك في كون الواجب هو العام أو هو الخاص يكون لدينا تردّد بين خصوصيتين ذاتيتين - أي هل أن هذه الخصوصية الذاتية هي المطلوبة أو تلك الخصوصية - وحيث أن بين الخصوصيتين الذاتيتين تبايناً فالمورد يصير من العلم الاجمالي بين المتباينين.
 وهذا بخلافه في المشروط فان خصوصية المشروط ليست ذاتية بل نشأت من الأمر بالرقبة اضافةً الى قيد الايمان ، فاخذ قيد الايمان في متعلق الأمر هو الذي ولّد المشروط ، فشكنا في أن الواجب هو المشروط أو المطلق يرجع الى الشك في أن الأمر هل تعلّق بخصوصية الايمان - أي بخصوصية الشرط - أو تعلق بعنوان الرقبة لا أكثر ، انه شك في تعلق الأمر بالزيادة وبالأمر الزائد فينفى بالبراءة.
 وهذا بخلاف العام والخاص فان الدوران دوران بين خصوصيتين ذاتيتين بقطع النظر عن تعلّق الأمر فان الأمر لا يولّد خصوصية الخاص اذ هي ذاتية كما قلنا ، فيكون الأمر مردّداً بين خصوصيتين ذاتيتين وليس في تعلق الأمر بالزائد حتى ينفى بالبراءة بل بين خصوصيتين ذاتيتين فيكون من الدوران بين المتباينين . هذا توضيح ما أفاده(قده).
 وفيه:- انا نسلم أن خصوصية الخاص هي ذاتية للخاص ولكن شغل الذمة بها ليس ذاتياً ، والمهم هو ملاحظة عالم شغل الذمة فان البراءة تجري بلحاظ عالم الذمة.
 اذن كون خصوصية الخاص وعمومية العام ذاتية وان كانت هذه الخصوصية شيئاً ذاتياً ولكن الكلام ليس هنا بل في عالم شغل الذمة والذمة لا تشتغل بالخاص الا اذا تعلّق الأمر بعنوان الخاص ونحن نشك هل تعلق الأمر واشتغلت الذمة بخصوصية الخاص بعد الجزم باشتغالها بالجامع بين العام والخاص ، أما في خصوصية الخاص فيشك في شغل الذمة بها فتجري البراءة ، والمطلب لا يستحق كلاماً أكثر من هذا.
 وبهذا ننهي هذا التنبيه.
 بقي شيء وهو:- ان الدوران بين العام والخاص هو - كما قلنا سابقاً - من مصاديق الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولكن في نفس الوقت هو أيضاً من مصاديق الدوران بين التعيين والتخيير ، فان الواجب اذا كان هو الاكرام فالمكلف مخيّر بين أفراد الاكرام ، ولو كان الواجب هو الاطعام فهناك تعيين وتعيُّن لا تقييد ، وبهذه المناسبة لا بأس أن نشير تبعاً للشيخ الأعظم في الرسائل الى حالات الدوران بين التعيين والتخيير لما في ذلك من نكاتٍ علميةٍ.
 وفي هذا المجال نقول:- تارة يكون الدوران بين التعيين والتخيير العقلي وأخرى يكون بين التعيين والتخيير الشرعي:-
 مثال التخيير العقلي:- ما تقدم - أي مثال الاكرام والاطعام - فان الواجب لو كان هو الاكرام فالعقل يحكم بالتخيير بين أفراده فيقول ( أنت مخيّر بين أفراد الاكرام ) أي بين الاطعام أو اهداء هديّة أو زيارةٍ .... أو غير ذلك ، ان التخيير آنذاك بين هذه الافراد تخير عقليّ لا شرعي ، وانما سمي عقلياً لأن العقل هو الذي يخيّر بين هذه الأفراد فهو يقول ( ان المولى قد أوجب عليك الاكرام وحيث أنه لم يشخّص لك فرداً معيّناً من أفراد الاكرام فيكفيك أي فردٍ ) والحكم في مثل ذلك ما تقدّم ، أي أن العقل يقول ( ان خصوصية الاطعام خصوصيةٌ مجهولةٌ وكلفةٌ زائدةٌ فتنفى بالبراءة ) ، بخلاف عنوان الاكرام فانه ليس فيه كلفة زائدة بل فيه توسعة فيشك في اشتغال الذمة بالخصوصية والكلفة الزائدة - أعني الاطعام - فتنفى بالبراءة ، هذا ما تقدّم ولا كلام لنا فيه ، وانما الكلام عند الدوران بين التقييد وبين التخيير الشرعي.
 ومثال التخيير الشرعي:- خصال الكفارة ، فان التخيير بينها ناشئ من الشرع ، فالشرع قال ( يجب عليك الاطعام أو الصيام أو العتق ) فاذا شككنا في أن الشرع هل أوجب خصوص العتق أو خيَّرنا بين العتق وبين العِدلين الآخرين فيكون المورد من الدوران بين التخيير والتعيين الشرعي.
 وفي هذا المجال نقول:- ان الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي له حالات نشير اليها كما يلي:-
 الحالة الأولى:- أن نعلم بأن خصوصية الاطعام مجزيةٌ جزماً في باب الكفارة ولكن نشك هل جعل الشرع صيام الشهرين عِدلاً أو لا ؟ اذن لو أطعمت فهو كافٍ جزماً ، ولكن اذا لم أرد الاطعام وأتيت بالصيام فهل يكفيني بدل الاطعام أو لا ؟
 المناسب هو الكفاية والاجزاء لأني بعدما صمت شهرين وفرغت منهما سوف يحصل لي الشك باشتغال ذمتي بالإطعام لاحتمال أن وجوب الاطعام ليس تعيينيّاً بل هو بنحو التخيير ، أي أن اشتغال الذمة به مشروطٌ بعدم الصيام ، فعند الاتيان بالصيام سوف أحتمل أن الذمة ليست مشغولة بالإطعام فتجري البراءة آنذاك فانه شك في اشتغال الذمة بالإطعام وكلل شك في اشتغال الذمة يمكن نفيه بالبراءة ، وسوف تصير النتيجة هي كفاية الصيام.
 وهنا تعليقان أحدهما للشيخ النائيني والآخر للشيخ العرقي ، وكلاهما لطيف:-
 أما تعليق الشيخ النائيني(قده) فانه قال:- ان المورد من موارد الشك في سقوط ما اشتغلت به الذمة وهو مورد للاشتغال ، اذ قبل أن أأتي بالصيام كانت ذمتي مشغولةً بالإطعام جزماً غايته لا أدري هل هي مشغولة بنحو التعيين أو بنحو التخيير ، وبعد أن أتيت بالصيام أشك في سقوط ما اشتغلت به ذمتي فأطبق قاعدة الاشتغال اليقيني لأنه شك في السقوط.


[1] الكفاية / في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.