الموضوع / الدوران بين الأقل والأكثر / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
الجواب الثاني:- ولعله هو المقصود للشيخ الأعظم(قده) في عبارته السابقة ، وحاصله:- إن الأقل معلوم الوجوب تفصيلاً ولكن لا نقول هو إما واجب نفساً أو واجب غيراً ، كلا بل نقول هو واجب بالوجوب النفسي فقط من دون إدخال الغيري في الحساب ولكن هذا الوجوب النفسي مردد بين أن يكون استقلالياً وبين أن يكون ضمنياً فان الوجوب إن كان قد تعلق واقعاً بالتسعة فوجوبها وجوب نفسي استقلالي وأما إذا كان قد تعلق بالعشرة فالتسعة واجبة بالوجوب النفسي الضمني باعتبار أن العشرة ليس إلا عبارة عن آحادها وأجزاءها فالوجوب المنصبّ عليها منصبّ على الأجزاء فكل جزء يشمله الوجوب النفسي وإلا فبِمَ تعلّق ؟ إذن التسعة واجبة بالوجوب النفسي إما الاستقلالي أو الضمني ، وبذلك يحصل الانحلال . وهو كما ترى أوجه من الجواب الأول.
وقد يناقش بمناقشتين:-
المناقشة الأولى:- صحيح أن الأقل معلوم الوجوب نفساً إما بنحو الوجوب النفسي الاستقلالي أو الضمني ولكن هذا المقدار لا يحلّ العلم الإجمالي حلّاً حقيقياً باعتبار أن المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي الاستقلالي فانّا نعلم بثبوته ولكن لا نعلم هل أنه تعلق بالتسعة أو بالعشرة ؟ بينما المعلوم بالتفصيل هو الوجوب النفسي الأعم من الوجوب الضمني أو الاستقلالي فلا يكون المعلوم بالتفصيل مصداقاً للمعلوم بالإجمال فلا يتحقق الانحلال فان شرط الانحلال هو الجزم بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل وهنا نجزم بعدم الانطباق.
وفيه:-
أولاً:- إن غاية ما يلزم من هذه المناقشة هو أن الانحلال الحقيقي سوف لا يتحقق باعتبار عدم انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل ، ولكن يبقى الانحلال الحكمي لا مانع منه ، فالبراءة لا تجري عن وجوب الأقل للعلم التفصيلي بوجوبه فتجري عن وجوب الأكثر فيتحقق الانحلال الحكمي.
وثانياً:- يمكن أن ندعي أن الانحلال الحقيقي ثابت أيضاً وذلك ببيان:- إن وجوب الأقل الذي نعلمه بالتفصيل وان كان هو الوجوب الجامع بين النفسي بقيد الاستقلالية أو النفسي بقيد الضمنية ولكن نقول إن هذين القيدين - أي قيد الاستقلالية وقيد الضمنية ليسا من القيود التي تنشغل بها الذمة فان القيود على نحوين قيود يمكن أن تنشغل بها الذمة وبالتالي لابد من أخذها بعين الاعتبار وقيود لا تنشغل بها الذمة كما هو الحال في قيد الاستقلالية والضمنية فان هذين القيدين يؤخذان كمشيرين ومرآتين إلى بيان الواجب من دون أن تكون لهما خصوصية تنشغل بها الذمة ، وعليه فلابد من طرحهما من الحساب وملاحظة واقع المحدود بهذين الحدَّين والمحدود واحد فان الوجوب النفسي واحد ولا يختلف واقعه إذا لاحظنا قيد الاستقلالية أو قيد الضمنية.
وبالجملة:- بعد وضوح أن هذين القيدين لا تنشغل بهما الذمة فلابد من حذفهما من الحساب وبعد حذفهما يكون المعلوم بالإجمال منطبقاً على المعلوم بالتفصيل انطباقاً جزمياً وبالتالي يحصل الانحلال الحقيقي.
المناقشة الثانية:- ما ذكره الشيخ محمد تقي الأصفهاني(قده)
[1]
وقد نقل ذلك عنه الشيخ النائيني(قده)
[2]
وحاصله:- إن هذا العلم التفصيلي بوجوب الأقل ليس هو علماً تفصيلياً بل هو في روحه علم إجمالي غايته صيغ بصيغة العلم التفصيلي صورةً وعبارةً ، وكيف أنه علم إجمالي في حقيقته ؟ قال:- لأنك قلت نحن نعلم تفصيلاً بوجوب الأقل بالوجوب النفسي إما الاستقلالي أو الضمني ، ونحن نسأل عن المقصود من قيد الاستقلالية ومن قيد الضمنية ؟ إن المقصود من قيد الضمنية هو أن الواجب هو التسعة بشرط شيء - أي بشرط إضافة الجزء العاشر - فانه حينما يضاف الجزء العاشر فالتسعة تصير واجبة بالوجوب الضمني فالواجب هو العشرة والتسعة واجبة ضمناً ومعنى أنها واجبة ضمناً هو أن التسعة واجبة بشرط ضمّ الجزء العاشر - أي بشرط شيء - بينما الاستقلالية - أعني وجوب التسعة بالوجوب النفسي الاستقلالي فمعناه وجوب التسعة لا بشرط ضم الجزء العاشر ، إذن المقصود من الوجوب النفسي الاستقلالي هو وجوب التسعة لا بشرط من حيث ضم الجزء العاشر . إذن الدوران بين الاستقلالية والضمنية يعني الدوران بين بشرط شيء ولا بشرط وقد قرأنا سابقاً أن اللحاظات الثلاثة كلها متباينة فهذا اللحاظ - أي بشرط شيء - يباين ذلك اللحاظ - أي اللا بشرط ومعه فالدوران بين الاستقلالية والضمنية دوران بين المتباينين وأنت بالتالي تعلم بالوجوب النفسي إما بهذا الشكل أو بذاك واللذين هما متباينان فليس لك علم تفصيلي بل لك علم إجمالي ، ولو كان مجرد هذا المقدار كافياً لتحقق الانحلال ولكان كل علم إجمالي بين المتباينين منحلاً حيث يمكن أن نصوِّره علماً تفصيلياً بالشكل المذكور ، ففي مثال العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة الذي هو من أمثلة العلم الإجمالي بين المتباينين جزماً نقول هكذا ( نحن نعلم تفصيلاً بثبوت وجوب للجامع بينهما ) ولكن من الواضح أن هذا باطل فان هذا في حقيقته هو علم إجمالي بين المتباينين ولكن صيغ من حيث الصورة بصياغة العلم التفصيلي.
والخلاصة:- إن العلم التفصيلي الذي ذكر في المقام هو ليس علماً تفصيلياً بحسب الروح والجوهر وإنما هو كذلك بحسب الصورة والشكل وإلا ففي واقعه هو علم إجمالي بين المتباينين ، ومعه يكون لدينا علمان إجماليان الأول هو العلم الإجمالي بالوجوب النفسي المتعلق بالعشرة أو بالتسعة ، وهذا العلم التفصيلي الذي هو في روحه علم إجمالي ، ومعلوم أن العلم الإجمالي لا ينحل بالعلم الإجمالي وإنما ينحل بالعلم التفصيلي . هذا توضيح ما أفاده(قده) ، ويظهر من الشيخ النائيني في بعض عبائره
[3]
ارتضاؤه وقد استند إليه في إثبات الاشتغال في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
[1]
وهو صاحب كتاب هداية المسترشدين في شرح معالم الدين.
[2]
فوائد الأصول 4 152.
[3]
كما في أجود التقريرات 2 288 .