الموضوع / التنبيه السادس ( الانحلال الحقيقي والحكمي ) ، الدوران بين الأقل والأكثر / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
المصداق الثالث:- إذا كان المعلوم بالإجمال ليس معلّماً بعلامة خاصة كأن علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين من دون تشخيصٍ بكونها ناشئة من دمٍ ثم حصل علم تفصيلي بنجاسة الإناء الأوَّل ، ففي مثل ذلك هل ينحل ذلك العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي انحلالاً حقيقاً - وإلا فالانحلال الحكمي شيء جزمي - ؟
والمثال الشرعي لذلك ما إذا فرض أنّا علمنا بوجود مجموعة أحكام واقعية في مجموع الوقائع أو في مجموع النصوص من دون تشخيص بكونها نصوص الكتب الأربعة ثم عثرنا على مجموعة من الأحكام تساوي المعلوم بالإجمال فهنا هل ينحلّ العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً ؟
اختلف العلمان النائيني والعراقي ، فذهب النائيني(قده) إلى الأوَّل - أي الانحلال الحقيقي - واستشهد لذلك بالوجدان وبعض الشواهد الأخرى ، بينما ذهب العراقي(قده) إلى الثاني - أي عدم الانحلال الحقيقي - واستند أيضاً إلى الوجدان وبعض الشواهد الأخرى.
والدخول في هذا المبحث لا نراه مجدياً بعدما كان الانحلال الحكمي ثابتاً جزماً.
أما على رأي الشيخ النائيني الذي يبني على مسلك الاقتضاء فباعتبار أنه بعدما حصل العلم التفصيلي فلا يجري الأصل بلحاظ الأحكام الثابتة بالعلم التفصيلي وأما الباقي فحيث لا علم إجمالي فيه فيكون شبهةً بدويةً فيجري الأصل فيه بلا معارض.
وأما بناء على مسلك العليّة الذي بنى عليه الشيخ العراقي فباعتبار أنه يشترط في منجزية العلم الإجمالي أن لا يكون أحد الطرفين قد تنجّز بمنجّز آخر وهنا يوجد منجّز آخر وهو العلم التفصيلي بلحاظ الأحكام التي ثبتت به فانه فيها قد ثبت التنجيز فلا يمكن أن تُنَجَّز من خلال العلم الإجمالي فيكون العلم الإجمالي قد تنجَّز أحد طرفيه بمنجّز آخر ، ومعه يجري الأصل عن بقية الأحكام من باب أنه لا علم إجمالي من الأساس أو لا علم إجمالي منجّزا .
إن قلت:- إن العلم التفصيلي يحصل في المثال المذكور بعد العلم الإجمالي ، فحينما حصل العلم الإجمالي لا تكون أطرافه منجّزة بمنجّز آخر فينشأ وهو منجّز.
قلت:- هذا صحيح ولكن هناك فارق بين العلم التفصيلي وبين العلم الإجمالي ، فالعلم التفصيلي هو منجز من دون أي شرط إذ لا يشوبه شك حتى يكون تنجيزه مشروطاً وقابلاً للتعليق ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي فان تنجيزه مشروط بعدم حصول العلم التفصيلي سابقاً ولاحقاً ، فلا يفرق من هذه الناحية - مادام قد فرض أن المنجّز في المقام هو العلم التفصيلي - بين كون العلم التفصيلي قد ثبت سابقاً أو لاحقاً فانه سوف تزول المنجزية عن العلم الإجمالي إذ الفروض أن منجزية العلم التفصيلي مطلقة وغير قابلة للتقييد بخلاف منجزيّة العلم الإجمالي فانه بعد حصول العلم التفصيلي لا معنى لبقائه على المنجزية سواء فرض أن العلم التفصيلي حصل سابقاً أو حصل لاحقاً.
والخلاصة:- إن البحث عن تحقق الانحلال الحقيقي وعدمه شيء غير مثمر سوى أنه ترف فكري بعدما سلّم العلمان بالانحلال الحكمي على كلا التقديرين - أي تقدير الانحلال الحقيقي وعدمه -.
ونحن سابقاً وان فرّقنا بين ما إذا كان المنجّز الآخر قد حصل قبل العلم الإجمالي فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً وبين ما إذا حصل بعد العلم الإجمالي فيصير المورد من الفرد القصير والطويل ، بيد أن هذا مختصٌ بغير العلم التفصيلي فان العلم التفصيلي - كما قلنا - هو منجز من دون أي قيد فلا يمكن أن يبقى العلم الإجمالي على المنجزية رغم حصول العلم التفصيلي الذي منجزيته منجزية مطلقة ، إن هذا هو الفارق بين ما ذكرناه سابقاً وبين ما نذكره الآن.
بهذا ننهي حديثنا عن الدوران بين المتباينين ويقع الكلام في الدوران بين الأقل والأكثر.
الدوران بين الأقل والأكثر:-
حينما تعرض الأصوليون إلى مبحث الشك في المكلف به بعد العلم بأصل التكليف تكلموا في مقامين فقالوا:- تارة يفترض أن متعلّق التكليف هو من قبيل المتباينين كما لو علم بالوجوب يوم الجمعة وتردد بأنه تعلّق بالظهر أو بالجمعة وأخرى يكون من قبيل الأقل والأكثر كما إذا علمت بفوات صلوات عليَّ ولكن لا أدري هل أنها خمسٌ أو ستٌ وكما لو فرض أني علمت بوجوب الصلاة ولكن لا أدري هل أن جلسة الاستراحة واجبة أو لا , وهذا يعني أن الأمر بالصلاة لا أدري هل تعلق بتسعة أجزاء - من دون جلسة الاستراحة - أو بعشرة ؟ إن متعلق التكليف في هذا المثال دار بين الأقل والأكثر ، وكلامنا كان في الدوران بين المتباينين والنتيجة النهائية التي انتهينا إليها هو وجوب الاحتياط .
ومن الآن نريد أن نتكلم عمّا إذا دار أمر الواجب بين الأقل والأكثر ، والأقل والأكثر تارة يكونان استقلاليين وأخرى ارتباطيين ، والفارق بينهما هو أنه في الاستقلاليين توجد تكاليف متعددة وأوامر متعددة بعدد الأفراد ، ففي مثال الصلاة الفائتة إن كان الفائت خمساً فقد توجه إلي خمسة أوامر وإذا امتثلت أحدها سقط هذا الواحد ولكن تبقى البقيَّة على حالها وعند الحساب سوف أثاب على امتثال الأوّل وأعاقب على عصيان البقيّة وهذا ما يصطلح عليه بـ( الأقل والأكثر الاستقلاليين ) أي أن أمر البعض مستقل عن أمر الآخر وامتثال هذا لا يرتبط بامتثال ذلك.
وهذا بخلافه في مثال أجزاء الصلاة فان الأمر لو كان متعلقاً بالعشرة وأراد المكلف الإتيان بتسعة فلا يكون ممتثلاً فضلاً عما إذا أتى بثمانية أو بسبعة وعند الحساب لا يقال له هذا ثواب على امتثال سبعةٍ وهذا عقاب على ترك الباقي ، كلا لأن الأمر واحد فإما أن يبقى وإما أن يسقط ، أما أن يبقى بلحاظ بعضٍ ويسقط بلحاظ بعضٍ فذلك خلف فرض الوحدة ، ومن هنا أطلق عليه بـ( الأقل والأكثر الارتباطيين ).
وقد وقع النزاع بين الأصوليين في أن المناسب هو الاحتياط في مثل ذلك كالمتباينين أو هو البراءة ؟
ونتمكن أن نقول إن الاختلاف صغروي وليس كبروياً ، بمعنى أن الجميع متفقٌ على أنه لو كان الشك في المكلف به دون أصل التكليف فاللازم هو الاحتياط ، ولكنهم اختلفوا في أن المورد هل هو من موارد الشك في المكلف به أو هو من موارد الشك في أصل التكليف ؟
فالقائل بالبراءة يقول:- أنا أعلم بثبوت التكليف بلحاظ تسعة أجزاء بينما الجزء العاشر أشك في أصل التكليف فيه فينحلّ هذا العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب التسعة وشك بدوي في وجوب الجزء العاشر فصار المورد من موارد الشك في أصل التكليف دون الشك في المكلف به.
بينما القائل بالاحتياط يقول:- ما دام الأمر واحداً فلا يمكن أن تقول أنا أتيقن بتعلقه بالتسعة فإن هذا ليس بصحيح إذ لعله متعلق بالعشرة دون التسعة فلا يوجد قدر متيقن في البين ، بل الموجود هو ثبوت تكليفٍ ونشك في تعلقه بالتسعة أو بالعشرة فيكون من الدوران بين المتباينين.
إذن النزاع صغروي وليس في أصل الكبرى ، وهذه قضية يجر الالتفات إليها منذ البداية.