الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/03/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / نهاية التنبيه الرابع ، بداية التنبيه الخامس / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 التلازم بين الحل والصحة:-
 بعد أن عرفنا أن المناسب بناء على عدم منجزية العلم الإجمالي في الأطراف التدريجية هو الرجوع إلى الأصل في كل طرف ، وعرفنا أيضاً أن المناسب هو الرجوع الى أصل البراءة والحل من حيث الحكم التكليفي ، ولكن قد تسأل وتقول:- إذا حكمنا بحلية المعاملة تكليفاً فهل يمكن الحكم بصحتها من دون حاجة أن نرجع إلى استصحاب عدم ترتب الأثر ؟ إذ لو ثبتت الصحة بأصالة الحل كان هذا بمثابة الأصل الجاري في الشك السببي ومعه لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي - أعني استصحاب عدم تحقق النقل والانتقال - فان الشك في النقل والانتقال ناشئ من الشك في إمضاء المعاملة وصحتها فإذا حُكِم بصحتها ببركة أصل الحلِّ فيرتفع الشك ويُجزم تعبداً بترتب الأثر ولا تصل النوبة آنذاك إلى الأصل المسببي .
 وبالجملة السؤال هو:- هل يمكن إثبات الإمضاء والصحة بأصالة الحلِّ المثبت للجواز التكليفي أو لا ؟ وهذا مطلب قد تقدمت منا الإشارة إليه مجملاً والآن نريد أن نسلط عليه الأضواء أكثر.
 وفي الجواب نقول:- تارة يفترض أن فساد المعاملة لا ينشأ من حرمتها التكليفية وأخرى يكون ناشئاً منها:-
 مثال الأول:- المعاملة الربوية ، فان فسادها لم ينشأ من حرمتها التكليفية وإنما دلَّ الدليل على أنها حرام تكليفاً وفاسدة وضعاً فالنص قد دل على كلا الحكمين معاً ، وبناءً على هذا إذا حكمنا بالحلِّ التكليفي فلا يلزم أن نحكم بالصحة إذ المفروض أن الصحة والفساد لم ينشئا من وجود النهي التكليفي وعدمه ولذلك أفتى الفقهاء بأن من أجرى معاملة ربوية وكان جاهلاً بكونها ربوية فهو ليس بآثم ومحكومٌ بالبراءة لحديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ولكن يُحكم ببطلان معاملته في نفس الوقت ولا يحصل نقل وانتقال فان الفساد - كما قلنا - لم ينشأ من الحرمة حتى إذا ارتفعت الحرمة لزم أن يرتفع الفساد ، وهذا مطلب واضح بالنسبة إلى المعاملة الربوية وما كان على شاكلتها ، وإنما الكلام في النحو الثاني - أي فيما لو فرض أن الفساد كان ناشئاً من الحرمة التكليفية - وكيف يكون ذلك والحال أننا قد قرأنا سابقاً أن النهي عن المعاملة لا يلازم الفساد وإنما يلازمه في باب العبادات دون المعاملات فكيف نتصور ذلك ؟
 ان هذا يمكن تصوره على رأي الشيخ النائيني(قده) فان له رأياً في مسألة النهي عن المعاملة وقال هو يقتضي الفساد ببيان :- ان النهي عن هذه المعاملة يدل على أن المكلف قد سُلبت منه السلطنة على إجراءها وما دام ليس مسلطاً شرعاً على إجراءها فلازمه فساد المعاملة إذ ذلك هو لازم عدم السلطنة ولو صحت ووقعت صحيحة لكانت السلطنة ثابتة له وهو خلف الفرض . إذن ما دمنا قد سلمنا أن النهي التكليفي يدل على سلب السلطنة على النقل والانتقال فلازمه بطلان المعاملة - أي عدم تحقق النقل والانتقال - وإلا كان ذلك خلف سلب السلطنة .
 وبناءً على هذا الرأي نتساءل ونقول:- حيث أن الفساد قد نشأ من النهي فإذا فرض أنه حُكم بالحل وأصل البراءة فهل يمكن الحكم بالصحة والنقل والانتقال آنذاك ؟
 أجاب (قده) [1] وقال:- نعم يمكن الحكم بالصحة فان الموجب لسلب السلطنة هو النهي وحيث قد فرضنا أنه لا نهي وقد حُكم بالحلِّ فذلك يعني أن هذا الشخص ليس مسلوب السلطنة فلا يعود هناك موجب للفساد بل المناسب هو الصحة ما دام ليس مسلوب السلطنة.
 وفيه:- ان أصالة البراءة والحلِّ غاية ما تثبته هو الحل والبراءة وإذا كانت هناك لوازم شرعية لذلك فتثبت أيضاً ، وأما اللوازم غير الشرعية فلا يمكن إثباتها بالأصل فان ذلك هو ما يعبَّر عنه بـ(الأصل المثبت ) وهو ليس بمثبتٍ ، والملازمة في مقامنا ليست شرعية - أي لا ملازمة شرعية بين الحل والصحة - إذ لا نصَّ يدل على ذلك ويقول ( أيها الناس متى ما كانت المعاملة حلالاً فهي صحيحة ) وإنما الملازمة عقلية للنكتة التي أشار إليها هو (قده) فبالحرمة تزول السلطنة فيثبت الفساد ، فإذا لم تكن هناك حرمة فالسلطنة ثابتة فيلزم ثبوت الصحة ، وهذا كما ترى كلام عقلي وملازمة عقلية ، وعليه فلا يمكن إثبات الصحة بأصالة البراءة والحل فان ذلك أصل مثبت كما هو واضح.
 ان قلت:- لعل مقصود الشيخ النائيني(قده) شيء آخر وهو أنه بعد جريان أصل الحل لا يعود هناك مانع من التمسك لإثبات الصحة بالعمومات - أعني مثل ( أحل الله البيع ) أو ( تجارة عن تراضٍ ) - فتلك العمومات هي التي يتمسك بها للصحة ودور أصالة الحل دور نفي المانع فيقال ( ان المقتضي لصحة المعاملة هو العمومات والمفروض أن المانع مفقود ببركة أصل الحلِّ ) لعل مقصود الشيخ النائيني(قده) هو هذا ، وهو شيء وجيه ولا يلزم منه محذور الأصل المثبت.
 قلت:-
 أولاً:- ان هذا خُلف الفرض ، فان النزاع هو في أن أصل الحل الذي أثبت الحل التكليفي هل يمكن به إثبات الصحة الوضعية والنقل والانتقال أو لا ؟ أما أن نُثبت ذلك بشيء آخر فذلك خارج عن محل الكلام وينبغي أن يكون من الواضح أنه شيء جائز - إذا فرض وجود دليل آخر لا يوجد مانع من التمسك به -.
 وثانياً:- بغض النظر عن هذا يمكن أن يقال:- ان هذه الطريقة - أي التمسك بالعمومات بعد إجراء أصالة الحل - شيء مرفوض فنيّاً لأن الشبهة إما أن تكون موضوعية أو تكون حكمية ولا شق ثالث في البين ، فان كانت موضوعية فلا يمكن التمسك العمومات لأنه تمسك بالعام في الشبهة الموضوعية وهو لا يجوز وان كانت حكمية فلا يلزم من التمسك بالعمومات محذورٌ ، فلا داعي إلى التمسك في المرتبة الأولى بأصالة الحل.
 إذن العمومات تدل ابتداءً على أن كل معاملةٍ أو كل بيعٍ هو صحيح فتثبت صحة كل معاملة مباشرةً الا ما خرج بالمخصص ، وعليه فنفس العمومات هي التي تثبت الصحة بلا حاجة إلى التمسك بأصالة الحلِّ لأنه بالتالي نحن نشك في حرمة هذه المعاملة ، فهناك شك ولا جزم وتلك العمومات تثبت أن كل معاملة هي صحيحة بالدلالة المطابقية كما تثبت بالالتزام أنها ليست منهياً عنها بلا حاجة الى ضم أصالة الحلِّ فان الحلَّ يثبت بالعمومات من خلال الدلالة الالتزامية ، فبالمطابقة تدل على الصحة والنقل والانتقال وبالالتزام تدل على أنها حلال تكليفاً ولا مشكلة فيها فتطويل المسافة بهذا الشكل لا داعي إليه.
 والخلاصة:- ان كان المقصود هو إثبات الصحة بنفس أصالة الحلِّ فهذا أصل مثبت ، وان كان المقصود هو التمسك بالعمومات بعد إثبات الحلِّ بالأصل فالشبهة إذا كانت موضوعية فلا يجوز التمسك بالعمومات كما هو واضح وإذا كانت حكمية فهي تثبت الصحة والحلِّ التكليفي معاً غايته أنها تثبت الصحة بالمطابقة والحلّ التكليفي يثبت بالالتزام.
 
 التنبيه الخامس
 حكم ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة:-
 وقع كلام في أنه لو كان عندنا إناءان مثلاً وفرضنا أن شيئاً ثالثاً كـ(العباءة ) لاقى الإناء الأوَّل - فالإناء صار مُلاقَى والعباءة صارت مُلاقِي والإناء الثاني صار طرف الملاقاة والكلام هو أنه هل نحكم نجاسة العباءة بعدما لاقت الإناء الأول بعد العلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين أو إنها محكومة بالطهارة ؟ وهذه مسالة ابتلائية عند أصحاب الأطفال فانه أحياناً قد يبول الطفل على فِراش الغرفة ويُنسى المكان ثم يأتي شخص ويضع قدمه على جانبٍ من الفِراش مع وجود رطوبة مسرية في قدمه فهل يُحكم بنجاسة القدم أو لا ؟


[1] فوائد الأصول 4 115.