الموضوع / التنبيه الثالث / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
ان قلت:- توجد قرينة في هذه الروايات على عدم إرادة الشبهة البدوية منها وإنما المراد هو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي وتلك القرينة هي قوله عليه السلام ( أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة ) ان هذا التعبير يدل على وجود العلم بكون الأنفحة من الميتة - أي في بعض البلدان - فالمورد ليس من الشبهة البدوية بل من المقرونة بالعلم الإجمالي ، وهكذا في مقام جواب الإمام عليه السلام حيث قال ( أمن أجل مكان واحد يُجعل فيه الميتة حَرُم في جميع البلدان ... ) يعني أن الإمام عليه السلام قد افترض أن الميتة قدر جُعلت في بعض الأماكن بنحو الجزم فحمل هذه الروايات على خصوص الشبهة البدوية هو في غير محله.
قلت:- المقصود أنه لو جُزم بوضع الميتة في مدينة معينة ككربلاء مثلاً فالحرمة تختص في هذه الدائرة وأما في بقية الأماكن فالشبهة بدوية ولا موجب للحرمة في بقية البلدان .
فهذه القرينة التي ذكرت هي قرينة على العكس - أي هي مؤيدة على الحمل على الشبهة البدوية - بالتوضيح الذي اشرنا إليه.
الرواية الخامسة:- ما جاء في باب الربا وأن من حصل على الربا بالإرث وكان المال الموروث مختلطاً - أي أن بعضه رباً وبعضه الآخر حلال - فالكل حلال وهذا معناه أن العلم الإجمالي ليس منجزاً فقد ورد في روايةٍ هكذا
( لو أن رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أن في ذلك المال رباً ولكنه قد اختلط في التجارة بغيره حلالٍ ، كان حلالاً طيباً فليأكله . وان عرف منه شيئاً أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليرد الربا
[1]
، وأيما رجل أفاد مالاً كثيراً قد أكثر فيه من الربا فجهل ذلك ثم عرفه بعدُ فأراد أن ينزعه فما مضى فله ويدعه فيما يستأنف
[2]
)
[3]
، وموضع الشاهد هو الفقرة الأولى أعني قوله
( ولكنه قد اختلط في التجارة بغيره كان حلالاً طيبا ).
والجواب:- نسلم على أنها دالة على عدم منجزية العلم الإجمالي ولكن لا يمكن أن يستفاد منها العمومية إذ الإمام عليه السلام لم يذكر قاعدة كلية بلسان ( كل شيء فيه حلال ... ) كما ذكر ذلك في الروايات السابقة وإنما هذا حكم خاص بمورده - أي باب الربا - ولعل لهذا المورد خصوصية فكيف نتعدى إلى سائر الموارد خصوصاً وأن الشبهة لم يفترض أنها غير محصورة بل ربما تكون محصورة ورغم ذلك جوز الإمام الأكل ، إذن هذا ترخيص خاص من المالك الحقيقي في الموضع الخاص كالأكل من بيوت العمَّات والخالات و...... فانه قد يقال حتى لو علم بعدم رضاهم مع ذلك يجوز الأكل من باب التخصيص ، وهكذا أكل المارَّة من الشجر الذي في الطريق ، ولذا ترى أن بعض الفقهاء يفتي في خصوص الربا من كمن يرابي في فترة من عمره وهو جاهل والآن علم بذلك فإذا جاء وقال ما اصنع ؟ فنقول له هو حلال لك ولكن لا تفعل ذلك فيما بعد - وهذا حكم للجاهل فقط دون العالم فالعالم يجب عليه إعادة أموال الناس - والمستند هو هذه الروايات فان في ذيل هذه الرواية قد ورد المضمون المذكور بل قد جاء في بعض الروايات الاستشهاد بقوله تعالى ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ).
والخلاصة:- ان هذه الروايات واردة في مورد خاص ولا يمكن استفادة العمومية منها لاحتمال الخصوصية.
الرواية السادسة:- ما دل على جواز أخذ جوائز السلطان يعني الظالم من قبيل قوله عليه السلام
( جوائز العمال ليس بها بأس )
[4]
، وقد ذكر صاحب الوسائل مجموعة من الروايات ، بتقريب أن العمال يعلم عادة أن بعض أموالهم من الغصب ونحوه فان الطابع العام عليهم أنهم ليسوا متدينين والمفروض أن الإمام عليه السلام نفى البأس عن أخذ الجائزة وهذا يدل على الجواز وأنه لا منجزية للعلم الإجمالي.
والجواب هو الجواب السابق فيقال:- ان هذه الروايات واردة في مورد خاص فجوائز السلطان هي عادة مجهول المالك وأجاز الشرع التصرف بهذه الحصة من مجهول المالك التي ينطبق عليها عنوان ( جائزة العامل أو السلطان ) ولا يمكن استفادة العمومية منها.
نعم هناك طريقة فنية لو قبلناها أمكن التمسك بها وهي أن يقال:- ان ما دفعه العامل لي يكون مورداً لابتلائي والذي لم يدفعه يكون خارجاً عن محل ابتلائي ومعه فلا تتعارض الأصول في الطرفين بل يجري أصل الحل فيما هو محل ابتلائي - أي ما دفعه لي - بلا معارضة ، وهذا شيء وجيه بناءاً على أن الأصول تختص بمورد الابتلاء ، وقد تقدم الحديث عن ذلك سابقاً.
ولكن بقطع النظر عن هذا يكفينا أن نقول:- ان موردها خاص فلا معنى للتعدي ولذا أفتى الفقهاء بأن جوائز الظلمة بعنوانها يجوز أخذها وهي مباحة بلا إشكال .
ونحن قد استفدنا وهذا من باب الكلام يجر الكلام منها شيئاً آخر وهو أن كل ما يدفعه الظالم أو العامل يكون مباحاً حتى إذا لم يكن بعنوان الجائزة - فمرة يقول هذا جائزة لك وأخرى أني عملت له عملاً فأعطاني أجرة - ولا يحتمل على أن الجواز والإباحة يختصان بالأول ولا يعمان الثاني فالثاني يكون مباحاً أيضاً ، وبناءاً على هذا تنحل مشكلة أجور الموظفين فما يأخذونه يصير مباح حينئذ ومجاز بلا حاجة إلى فكرة مجهول المالك والاستئذان من الحاكم الشرعي .
نعم هنا إشكال واحد وهو أنه قد يقال:- هذه إجازة خاصة من الإمام عليه السلام فهو حينما أجاز أخذ الجائزة إنما أجاز ذلك من باب مجهول المالك فأجازه بما أنه هو الحاكم الشرعي فلا معنى حينئذ لاستفادة العمومية بلحاظ جميع الأزمنة وإنما هي إجازة خاصة من قبل الإمام في وقته واحتمال ذلك يكفي .
والجواب:- ان الفقهاء استثنوا عنوان جوائز العمال والسلطان وحكموا بأنها جائزة إلى الأبد فإذا قبلنا بذلك فحينئذ يأتي ما ذكرناه بلا مشكلة ، والوجه في هذه العمومية هو أن الإمام عليه السلام قال ( جوائز العمال ليس بها بأس ) ولا معنى لحمل ذلك على الإجازة الخاصة بما أنه الحاكم الشرعي بل ظاهر حال الإمام عليه السلام أنه حينما يبين شيئاً فانه يبينه بما أنه الحكم الشرعي والحمل على خلاف ذلك يحتاج إلى قرينة.
الرواية السابعة:- ما دل على جواز شراء الزكاة ومال المقاسمة من الظالم حتى مع العلم بظلمه من قبيل صحيحة معاوية بن وهب
( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنه يظلم ؟ فقال:- اشترِ منه )
[5]
، وفي صحيحة أبي عبيد عن أبي عبد الله عليه السلام
( سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان من ابل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم ، فقال عليه السلام :- ما الإبل الا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه )
[6]
.
والجواب هو الجواب:- أي أنها واردة في مورد خاص فلا يمكن استفادة العمومية منها.
[1]
الفرق بين هذه الفقرة وسابقتها هو أنه في السابقة قد فرض الاختلاط وعدم التمييز بينما ، في الثانية قد فرض الامتياز فيجب رد المميز إلى أهله.
[2]
يعني إذا كان الشخص يتاجر بالربا وهو جاهل بأن هذا ربا أو يجهل أن الربا حرام فإذا علم فبالنسبة إلى ما حصل يكون مباحاً وعليه ان يستأنف العمل لما يستقبل.
[3]
الوسائل 18 128 5 ابواب الربا ح2.
[4]
الوسائل 17 214 51 من ابواب ما يكتسب به .
[5]
الوسائل 17 219 52 من أبواب ما يكتسب به - ح4.
[6]
المصدر السابق - ح6.