الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/02/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع / التنبيه الثالث / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
 الأمر الخامس:- الشبهة غير المحصورة:-
 قد وقع الكلام في الشبهة غير المحصورة من ناحيتين تارة من ناحية تحديد موضوعها واخرى من ناحية الوجه الفني لعدم وجوب الاحتياط فيها:-
 أما بالنسبة إلى تحديدها:- فقد ذكر لها الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل عدة تحديدات من قبيل أن الأطراف متى ما عسر عدُّها كانت الشبهة غير محصورة وذا لم يعسر فهي محصورة ، ومن قبيل أن المرجع هو الصدق العرفي فما صدق عليه في نظر العرف أنه غير محصور كانت الشبهة فيه غير محصورة ..... إلى غير ذلك مما ذكره.
 وذكر الشيخ النائيني(قده) [1] أن المدار على إمكان ارتكاب جميع الأطراف وعدمه ، فليس المدار على كثرة الأطراف فقط بل بعد ضم ضميمة وهي عدم إمكان ارتكاب جميع الأطراف ، فالمدار في الشبهة غير المحصورة على شيئين هما كثرة الأطراف مع عدم إمكان ارتكابها جميعاً وإذا فقد أحدهما كانت محصورةً ، وعلى هذا الأساس لو فرض أنا علمنا بغصبية حبَّة واحدة من كيس أرز مثلاً فهنا الأطراف كثيرة ولكن يمكن ارتكاب الجميع ولو بنحو التوالي فان الشخص بالتالي سوف يرتكب جميع الأطراف غايته خلال عدة أيام فالشبهة هنا محصورة رغم كثرة الأطراف ، أما إذا علمت بأن إبريقاً من بين أباريق النجف الأشرف مثلاً مغصوب فهنا لا يمكن ارتكاب جميع الأطراف عادةً ولو بنحو التوالي وما دام لا يمكن فالشبهة تصير غير محصورة .
 إذن المدار عند الشيخ النائيني(قده) في كون الشبهة غير محصورة على اجتماع قيدين هما كثرة الأطراف وعدم إمكان ارتكابها جميعاً ولو على نحو التوالي . هذا ما قيل في تحديد الشبهة غير المحصورة.
 والظاهر ان طرح هذا البحث بهذا الشكل ليس فنياً من الأساس فان مفهوم الشبهة غير المحصورة لم يرد في موضوع حكم من الأحكام الشرعية ولسان نصٍ من النصوص وإنما هو مصطلح أصولي قد قصدوا به الإشارة إلى تلك الشبهة التي لا يجب الاحتياط فيها ، ومعه يكون المناسب في المرحلة الأولى ملاحظة الوجه الفنِّي لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ثم في المرحلة الثانية نحدد الشبهة غير المحصورة آخذين ذلك الوجه الفني بنظر الاعتبار ، فمثلاً إذا كان الوجه الفني لعدم وجوب الاحتياط هو خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بسبب الكثرة فحينئذ نحدد الشبهة غير المحصورة هكذا ( هي الشبهة التي كثرة أطرافها بنحوٍ يخرج بعضها عن محل الابتلاء ) . إذن في المرحلة الأولى ينبغي أن نعرف الوجه والدليل الفنِّي لعدم وجوب الاحتياط وعلى ضوءه نحدد الشبهة غير المحصورة أما أن نحددها كيفما اتفق أو أن نرجع إلى العرف فذاك شيء ليس فنيّاً بعد أن فُرض أن هذا مصطلح أصولي لا يصح تفسيره كيفما اتفق.
 إذن علينا الآن أن ندخل في الوجوه الفنّيّة لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة بعدما كنّا نحمل صورة مجملة ارتكازية عنها:-
 الوجه الاول:- ما اختاره الشيخ الأعظم(قده) في الرسائل وهو تطبيق حساب الاحتمال ، وهذا من أحد الموارد التي يظهر فيها من الشيخ الأعظم قبوله لحساب الاحتمال غايته لم يبرزه بهذا المصطلح وإنما الروح هي ذلك كما سوف نوضح . ومن بنى عليه أيضاً الشيخ العرقي(قده) [2] وغيره ممن تأخر عنهما ، ولكن نفس روح هذه الفكرة موجودة في الرسائل.
 وحاصل هذا الوجه هو:- ان الأطراف إذا كانت كثيرة وعلمنا بنجاسة واحدٍ منها كما لو فرض أنها كانت ألف طرفٍ وكان المعلوم بالإجمال واحد من بين الألف ففي مثل ذلك إذا وضعنا إصبعنا على أي واحد من الألف فاحتمال كونه هو المعلوم بالإجمال - أي هو ذلك المتنجس - هو احتمال ضعيف جداً بحيث يُطمأن بعدمه ، ولا نقول لا يُحتمل كونه هو ذلك المتنجس كلا بل نقول يوجد احتمال ولكنه احتمال لا يعير له العقلاء أهميةً ، أو قُل يحصل الاطمئنان بأنه ليس ذلك المتنجس ، فلو كانت الأطراف ألفاً فنسبة احتمال كون هذا هو المتنجس هي ( 1 / 1000 ) أي احتمال واحد من بين ألف احتمال وهو احتمال ضعيف جداً هذا لو أخذنا الطرف الاول ، وأما إذا أخذنا الطرف الثاني فالأمر فيه كذلك ، يعني أن احتمال كونه هو المتنجس هو ( 1 / 1000 ) أي يُطمأن بالعدم ......... وهكذا إلى تمام الألف فان درجة الاحتمال تبقى واحد ولا تتضاعف.
 نعم ان الذي يتزايد هو احتمال ارتكاب المتنجس فيما سبق ، أي لو أكلت الحبة الأولى فاحتمال أنها هي المتنجس (1 / 1000 ) وهكذا إلى تمام الألف ، وحينما أصل إلى الحبة رقم ألف فان احتمال كونها هي النجس واحد على الألف أيضاً ، نعم إذا أكلتها فسوف أطمئن بأني قد أكلت الحبة المتنجسة فيما سبق لا أن هذه الحبة التي بيدي يتزايد احتمال كونها هي المتنجسة ، كلا بل الذي يتزايد هو احتمال كوني قد ارتكبت المتنجس فيما سبق ، أي سوف يحصل لي اطمئنان بأني قد ارتكبت الحرام ، ولكن من الواضح ان تحصيل الاطمئنان أو العلم بارتكاب الحرام ليس بحرامٍ وإنما الحرام هو ارتكاب الحرام الآن لا تحصيل العلم بارتكابه سابقاً ، فالإنسان إذا جلس وفكَّر بأنه قد ارتكب محرمات ويطمئن بأنه قد ارتكبها فيما سبق أفهل تحصيل هذا الاطمئنان يكون محرَّماً ؟ كلا ان ارتكاب الحرام هو المحرَّم وأما تحصيل الاطمئنان بأنه ارتكب حراماً فيما سبق فليس بحرامٍ لعدم الدليل على ذلك.
 وعلى هذا الأساس يجوز ارتكاب الشبهة غير المحصورة ودليله الاطمئنان لأن الطرف الأول يُطمأن بأنه لا ينطبق علية المعلوم بالإجمال وكذلك باقي الأطراف ....... إلى الألف ، والجميع إذا ارتكبها جميعاً فقلنا ان تحصيل العلم بارتكاب الحرام ليس بحرامٍ ، فهذه النكتة التي لأجلها بنى الشيخ الأنصاري(قده) على جواز الارتكاب.
 وبناءاً عليها فالمناسب تحديد الشبهة غير المحصورة بأنها ( تلك الشبهة التي كثرت الأطراف فيها إلى حدٍ يحصل الاطمئنان بلحاظ كل طرف بأنه ليس هو المعلوم بالإجمال ) هذا هو التحديد الفني للشبهة المحصورة.
 وهذا الوجه الأول لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة واجه إشكالين إشكالاً صغروياً وآخر كبروياً:-
 أما الإشكال الصغروي:- فقد رأيناه في كلمات الشيخ عبد الكريم الحائري(قده) [3] وحاصله:- أن كل طرفٍ إذا حصل الاطمئنان بعدم كونه هو المعلوم بالإجمال - يعني كونه ذلك النجس الواقعي - فسوف نحصل على اطمئنانات بقدر الأطراف فلو كانت ألفاً فيحصل ألف اطمئنان وبالتالي سوف يحصل اطمئنان بالسالبة الكليّة ، يعني سوف يحصل اطمئنان بأنه لا الأول ولا الثاني ........ وهكذا إلى الألف فلا شيء منها نطمئن بأنه هو النجس وهذا يناقض علمنا بأن واحداً منها نجس والسالبة الكلية كما نعرف تناقض الموجبة الجزئية ولا يمكن صدقهما معاً ، أي صدق الموجبة الجزئية وهي أن واحداً منها نجس وفي نفس الوقت نطمئن بأنه لا شيء منها نجس فأنهما لا يجتمعان فكيف يحصل إذن الاطمئنان بالسالبة الكلية بعد علمنا بالموجبة الجزئية ؟! انه لا يمكن ذلك ، يعني بعد علمنا بالموجبة الجزية لا يمكن أن تحصل هذه الاطمئنانات المذكورة التي تتكون منها السالبة الكلية.
 وأما الإشكال الكبروي:- فهو لا يمكن أن تكون جميع هذه الاطمئنانات حتى لو حصلت وأمكن أن تحصل أن تكون حجة لعلمنا بكذب واحدٍ منها ومع العلم بكذب واحدٍ منها كيف يكون الجميع حجة . إذن حجية جميع هذه الاطمئنانات غير ممكنة لعلمنا بكذب واحدٍ ، وحجية البعض دون البعض بلا مرجح ولا موجب ، بل المناسب أن لا يكون شيئاً منها حجة فتسقط جميعها.
 والفارق بين الإشكال الصغروي والكبروي من حيث الروح هو أنه في الإشكال الصغروي كان يقال لا يمكن حصول الاطمئنانات الألف تكويناً وهو مستحيل ، وأما في الإشكال الكبروي فيقال لو تنزلنا وسلمنا بإمكان ذلك تكويناً فهي ليست حجة للعلم بكذب واحدٍ منها . إذن الإشكال الكبروي ناظر إلى الحكم الحجية بينما الصغروي ناظر إلى الموضوع.


[1] فوائد الأصول 4 117.
[2] نهاية الأفكار 3 330.
[3] الدرر 2 471.