الموضوع / التنبيه الثالث / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وكان المناسب للشيخ العراقي(قده) إذا أراد المثيل للاستهجان في باب الأوامر أن يمثل بغير ما ذكره بل بما سنذكره - الذي لعله الأقرب - وذلك كما لو فرض أن متعلق الأمر كان شيئاً يصنعه المكلف حتى ولو لم يؤمَر به حتى يكون ذلك على وزان النهي حيث يقال هناك هو يتركه حتى لو لم يكن هناك نهي فيكون النهي مستهجناً هنا أيضاً ، فيلزم أخذ هذه الخصوصية في المثال - أي أن المكلف يفعل متعلق الأمر حتى ولو لو يؤمر به - فانه آنذاك يحصل انسجام بين الموردين ، ومثال ذلك أن يقال لشخص ( إذا جعت فكُل طعاماً طيباً ) فمن الواضح أنه إذا جاع فسوف يأكل بلا حاجة إلى أن نقول له ذلك ، أو مثل ( حافظ على نفسك من المخاطر ) أو ( حافظ على أموالك من السرقة والاختلاس ) أو ( حافظ على أطفالك وعيالك ) أو ما شاكل ذلك ، فان التمثيل بهذا أقرب من الأمثلة التي ذكرها (قده) فان الجامع المشترك موجود بين الأمثلة التي ذكرناها وبين الأمثلة التي تذكر في باب النهي ، بينما لا يوجد هذا الجامع المشترك في الأمثلة التي ذكرها.
وعلى أي حال لو فرض أن الشيخ العراقي(قده) كان يمثل بهذه الأمثلة لقلنا أن الاستهجان لا يلزم بدليل أن كل إنسان مكلف بانٍ على أن لا يلقي نفسه في التهلكة وإذا قتل نفسه كان حراماً ودخل النار ..... وما شاكل ذلك ، ان هذا واضح في أن التكليف ثابت في أمثال هذه الأمور فلو فرض أن هناك استهجان للزم أن لا يكون هناك تكليف بحفظ النفس أو حفظ الأموال أو ما شاكل ذلك والحال أنه ثابتٌ بلا إشكال ، هذا كله لو فرض أن الخطاب كان خطاباً شخصياً . وأما إذا كان الخطاب خطاباً كليّاً فقد قلنا سابقاً انه لا استهجان بعد ضم فكرة أن الإطلاق هو عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها.
الأمر الثاني:- ذكر الشيخ النائيني(قده)
[1]
أنه يلحق بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء الموردان التاليان:-
المورد الاول:- إذا فرض أن الشيء كان مقدوراً بالقدرة التكوينية ولكنه ليس مقدورا بالقدرة الشرعية كما إذا علمت بنجاسة إنائي أو إناء صاحبي وهو لا يأذن باستعماله فهنا يكون غير مقدور شرعاً ولكنه مقدور تكويناً فهنا قال(قده) هذا يلحق بحالة الخروج عن محل الابتلاء بعد ضم ضميمة وهي أن هذا الشخص ليس بصدد بيع إناءه ولا إهداءه ولا غير ذلك فهو لا يجوِّز ولا يبيع فانه في مثل ذلك يُلحق بحالة الخروج عن محل الابتلاء بمعني أن توجه التكليف بالاجتناب عنه على تقدير نجاسته يكون مستهجناً ، فقبيح أن يقول المولى لا تتصرف في هذا الإناء النجس.
المورد الثاني:- ما إذا فرض أن أحد الطرفين كان مقدوراً تكويناً وشرعاً ولكن من البعيد الابتلاء به ، ومثَّل بما إذا علم المكلف بنجاسة إما هذا التراب الذي أمامه والذي يسجد عليه أو يتيمم به أو تراب الزقاق الذي فان تراب الزقاق لا يبتلي به المكلف عادة ومن البعيد ابتلاؤه به لا بالسجود عليه ولا بالتيمم به ولا غير ذلك فمثله لو كان هو النجس يستهجن توجه التكليف بالاجتناب عنه أيضاً فيكون ملحقاً بالخارج عن محل الابتلاء .
وأُمثل على منوال ما ذكره بمثال آخر وهو كما لو فرض أني أشتري من اللحم الموجود في سوق محلتنا عادة ولا أشتري من القصاب الموجود في حي آخر وعلمت بأنه هناك لحم مغصوب أو غير مذكى إما هذا اللحم الذي في سوقنا أو ذاك ، فيقال انه على تقدير كون الحرام عند ذلك القصَّاب فيستهجن توجه الخطاب فيكون ملحقاً بحالة الخروج عن محل الابتلاء . هذا توضيح ما أفاده (قده)
وفيه:-
أما بالنسبة إلى ما أفاده في الاول أعني غير المقدور شرعاً فيمكن أن يقال:- صحيح أن ذلك الشخص إذا لم يأذن في التصرف بأي شكل من الإشكال فانا لا أكون قادراً على التصرف شرعاً ولكن رغم هذا يمكن توجيه التكليف من دون استهجان وذلك بنحو القضية التعليقية بأن يُخاطَب المكلف ويقال له ( لو عصيت حرمة الغصب وحرمة التصرف من دون إذن المالك فعلى الأقل لا تتصرف بالشرب فانه نجس ولا يجوز شرب النجس ) ان مثل هذا الخطاب ليس مستهجناً . نعم ان الخطاب المطلق قد يكون مستهجناً ، أما الخطاب بهذا الشكل فهو ليس بمستهجنٍ.
بل يمكن ان نصعد اللهجة ونقول:- في موارد العلم التفصيلي بكون الشيء مغصوباً نسأل ونقول ان هذا المغصوب الذي نعلم به كان نجساً فلو تصرَّف المكلف فهل يكون مستحقاً للعقوبة من ناحيتين أو من ناحية واحدة ، أي من ناحية الغصب فقط ؟ يلزم أن تكون العقوبة واحدة على رأي الشيخ النائيني(قده) ولا توجد عقوبة من ناحية شرب النجس لأن التكليف ليس موجوداً لأنه مستهجنٌ على رأيه فيلزم أن لا يكون هناك تكليف والحال أن هذا باطل جزماً فانه يستحق العقوبة مرتين وهذا كاشف عن ثبوت تكليف آخر وأنه ليس بمستهجن . ومع التنزل يكفينا العلم بالمبغوضية الذي أشرنا إليه سابقاً ، فصحيح أن التكليف ليس بثابتٍ للاستهجان ولكن العلم بالمبغوضية ثابت ، فأتمكن أن أقول ان كان الإناء الاول هو النجس فالمولى يبغض شربه جزماً بما هو نجس والإناء الثاني ان كان هو النجس فالمولي أيضاً يبغض تناوله بما هو نجس ، فالعلم بالمبغوضية موجود على كلا التقديرين فيكون منجزاً.
وأما بالنسبة إلى ما ذكره في المورد الثاني فيرد عليه:- انه إما أن نفترض أنه ليس محلاً للابتلاء حقيقة أو أنه ليس كذلك فالأمر لا يخلو من إحدى حالتين ، فان كان خارجاً عن محل الابتلاء حقيقةً فلا حاجة إلى الإلحاق أي لا معنى لأن نقول ان هذا المورد ملحق بحالة الخروج عن محل الابتلاء لأنه خارجٌ فلا معنى للإلحاق ، وأما إذا فرضنا أنه ليس كذلك أي يمكن أن يصير مبتلىً به وان كان بنحو العادة الشخصية لا أبتلي به فلا يكون الخطاب مستهجناً لأنه ليس خارجاً عن محل الابتلاء حقيقةً وإنما هناك مجرد عادة خارجية وهي لا تضرّ والإلحاق بالخروج عن محل الابتلاء لا يكون وجيهاً.
[1]
فوائد الأصول 4 65.