الموضوع / التنبيه الثالث / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وربما يقال:- انه لا يمكن تعلق التكليف بعد فرض عدم إمكان الفعل ، وقد يوجه ذلك بأحد الوجوه الثلاثة التالية:-
الوجه الاول:- محذور الاستهجان ، بتقريب:- ان توجيه الخطاب والتكليف إلى الشخص المذكور مستهجن ، فالشيخ الكبير الذي لا يتمكن من الزنا يستهجن أن يقال له ( لا تزنِ ) فتوجيه التكليف والخطاب له يكون مستهجناً ، وعليه فالتكليف لا يكون ثابتاً في حقه لمحذور الاستهجان.
وفيه:- ان هذا يتم إذا كان التكليف تكليفاً شخصياً والخطاب خطاباً شخصياً بأن يُوجَّه التكليف إلى خصوص هذا الشيخ الكبير أو المشايخ الكبار ويقال ( أيها الشيخ الكبير أو المشايخ الكبار لا تفعلوا كذا ) ان هذا مستهجن كما ذكر ، ولكن التكاليف الشرعية عامة وعلى نحو القضية الحقيقية ، أي هي موجهة إلى طبيعي المكلف فيقال هكذا ( أيها المكلف لا تزنِ ) لا أنه يتوجه تكليف إلى خصوص الشيخ أو المشايخ حتى يلزم محذور الاستهجان . إذن محذور الاستهجان لا يلزم في الأحكام الشرعية بعد عدم كونها شخصية وخاصة.
أجل لو بنينا على أن الإطلاق هو عبارة عن ضمِّ القيود والجمع بينها وليس هو عبارة عن رفض القيود وطرحها أمكن أن يُسَلَّم محذور الاستهجان ، ولكن الصحيح هو الثاني وبناءاً عليه لا يلزم محذور الاستهجان.
ولتوضيح ذلك بإجمال:- ان المولى حينماً يريد أن يصدر حكماً مطلقاً ويقول ( اعتق رقبة ان أفطرت ) ان هذا الحكم مطلق بلا إشكال ولكن ما هو معنى الإطلاق ؟ هل معناه هو أن المولى يلتفت إلى العناوين والمصاديق والحالات المختلفة أي أنه يجلس مدَّةً وينظر إلى الرقبة المؤمنة والكافرة والصغيرة والكبيرة والهندية والتركية ....... وهكذا إلى أن يلاحظ هذه أجمع ثم يوجه الحكم ؟ هل هذا هو الإطلاق أي الالتفات إلى العناوين أجمع ؟ وهذا ما يعبر عنه بــ( ضم القيـود ) أو ( الجمع بين القيود ) ، في مقابله نقول الإطلاق ليس عبارة عن ضم القيود بل هو عبارة عن نظر المولى إلى الطبيعة ، فهو ينظر إلى طبيعة الرقبة من دون أن ينظر إلى حالة معينة وهذا النظر إلى الطبيعي زائداً عدم النظر إلى حالة معينةٍ هو عبارة عن الإطلاق ، فيكون الإطلاق عبارة عن رفض القيود أو عدم النظر إلى القيود وعدم ملاحظتها ، ولا إشكال في أن الوجدان قاضٍ بأن الإطلاق هو الثاني دون الأول ، فنحن حينما نصدر حكماً مطلقاً لا نجلس ونفكر ونتصور كل الحالات ، فالوجدان قاض بأن الإطلاق هو صب الحكم على الطبيعة ، وبناءاً على هذا المسلك الصحيح لا يلزم محذور الاستهجان إذ الحاكم لم ينظر إلى الحالات التي منها الشيخ الكبير وإنما نظر إلى ذات المكلف البالغ العاقل وصب الحكم عليه . إذن يشكل قبول محذور الاستهجان ولا يلزم بعدما كانت أحكام الشريعة أحكاماً مطلقةً وليست شخصيةً بعد ضم أن الإطلاق هو عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها.
الوجه الثاني:- محذور تحصيل الحاصل ، وذلك بأن يقال:- ان ترك الزنا من الشيخ الكبير مثلاً هو حاصل من دون حاجة إلى توجيه الخطاب ومعه يكون توجيه الخطاب طلباً لتحصيل ما هو حاصل ، وطلب تحصيل الحاصل باطل إما لكونه غير مقدورٍ في حدِّ نفسه فان الشيء إذا كان حاصلاً فيكيف يُحَصَّل ؟!! فهو غير مقدور عقلاً ، أو أنه لغوٌ إذ الشيء الذي هو حاصلٌ لا حاجة إلى طلب تحصيله فانه من اللغو والعبث.
وفيه:- ان طلب تحصيل الحاصل باطل كما ذكر لأحد المحذورين المتقدمين ، ولكن مقامنا ليس من مصاديق ذلك إذ يطلب الترك في الزمان المستقبل - أي لا ينبغي لك أن تفعل ذلك الشيء بعد أن يصدر الخطاب والتكليف - لا أن المطلوب هو الترك قبل صدور الخطاب أو حين صدوره وإنما المطلوب هو الترك المستقبلي المُعبَّر عنه بعملية ( الإبقاء ) - أي إبقاء الترك - ومن الواضح ان الترك المستقبلي ليس بحاصلٍ الآن حتى يكون طلبه طلباً لتحصيل ما هو حاصل ، فالمقام ليس من موارد تحصيل الحاصل.
نعم يمكن أن يُوجَّه محذور تحصيل الحاصل بهذا الشكل:- وهو أن الترك المستقبلي نسلم بأنه ليس بحاصل الآن ولكنه بالتالي يحصل سوف بلا حاجة إلى تكليف وخطاب فهو حاصل بهذا المعنى - أي من دون حاجة إلى خطاب وتكليف فهو سيتحقق حتماً - وإذا كان هذا هو المقصود فهذا عودة إلى محذور الاستهجان واللغوية الذي هو الوجه الاول وقد قلنا ان ذلك وجيه إذا كان التكليف تكليفاً شخصياً دون ما إذا كان عاماً وللعنوان المطلق الطبيعي.
الوجه الثالث:- ان الشيء إذا لم يكن مقدوراً فلا معنى لتنجزه ودخوله في العهدة وكيف تنشغل العهدة بما ليس بمقدور.
وفيه:- نحن نسلم ان العهدة لا يمكن أن تنشغل بغير المقدور ولكننا قد افترضنا في المقام أن الذمة لم تنشغل بالفعل الذي فرض أنه ليس بمقدورٍ وإنما انشغلت بالترك والترك مقدورٌ . إذن المقام ليس من مصاديق الكبرى المذكورة.
وعلى هذا الأساس يتضح أنه لا مانع من شمول خطاب ( لا تشرب النجس ) أو خطاب ( لا تشرب الخمر ) لمثل النجس الموجود في المكان غير المقدور أو للخمر الموجود في المكان غير المقدور ، وما دام إطلاق الخطاب يمكن أن يكون شاملاً لذلك الفرد غير المقدور فالعلم الإجمالي يتشكل ، فلو علمت بأن النجاسة قد وقعت إما في هذا الإناء الذي أمامي أو في الإناء الموجود في مكان غير مقدور فبالتالي أعلم بتوجه خطاب ( لا تشرب النجس ) اليَّ بنحو الفعلية لأنه ان كان الذي تنجس هو الإناء الذي أمامي فواضح ، وإن كان ذاك الإناء فالخطاب يشمله أيضاً ، وعليه يتشكل العلم الإجمالي من دون مانعٍ حتى إذا كان أحد الأطراف ليس بمقدور الفعل ولكنه مقدور الترك.