الموضوع / التنبيه الثاني / تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وأما أن الترخيص واقعي فيمكن أن يستدل له بالبيان التالي:- انه لا إشكال في جواز تناول الإناء الاول مثلاً عند مدّ اليد إليه ، بيد أن الكلام في مدرك الجواز فما هو ؟ ينحصر في احتمالين:-
أحدهما:- أن يكون هـو فقرة ( رفع عن أمتي ما اضطروا إليه ).
وثانيهما:- أن يكون هو فقرة ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ).
وحيث أن الثاني باطل فيتعين أن يكون المدرك هو الاول ، وبذلك يكون الترخيص ترخيصاً واقعياً لأن الرفع في فقرة الاضطرار رفع واقعي.
أما لماذا لا يمكن أن يكون المستند هو فقرة ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ؟ ذلك باعتبار أنه لو كانت هي المستند فيلزم في كل علم إجمالي جواز تطبيق هذه الفقرة لإثبات البراءة والحال أننا اتفقنا على أن فقرة ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) لا يجوز تطبيقها على أطراف العلم الإجمالي ، فلابد أن تكون النكتة في الجواز هي الاضطرار أي ( رفع عن أمتي ما اضطروا إليه ).
ان قلت:- هناك شق ثالث وهو أن نجعل المستند كلتا الفقرتين لا خصوص أحدهما وذلك ببيان:- أن أحد الإناءين قد اضطررنا إلى ارتكابه ، يعني أن الجامع - وهو الأحد - نضطر إلى ارتكابه فنطبق فقرة رفع الاضطرار على الجامع فيثبت بذلك جواز ارتكاب أحدهما ، وأما أن هذا الذي اخترته يجوز ارتكابه بخصوصه فهو باعتبار فقرة ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) . إذن نطبق فقرة رفع الاضطرار بلحاظ الجامع ، ونطبق فقرة رفع ما لا يعلمون بلحاظ هذا الفرد بخصوصه لأجل رفع حرمته . إذن ليس المستند في الجواز هو خصوص ( رفع عن أمتي ما اضطروا إليه ) حتى يكون الحق مع الشيخ الخراساني(قده).
قلت:- هذا مطلب وجيه صناعيّاً وفنيّاً ودقَّةً ولكنه ليس تطبيقاً عرفياً ، فلا يسمح العرف بتطبيق الحديث بلحاظ الجامع دون أفراده أو على أفراده بقطع النظر عنه فان مثل هذا التفكيك دقّيٌّ وليس عرفياً فيكون الدليل منصرف عنه ، وعليه ينحصر المدرك الجواز في أحد هذين لا كليهما ، وحيث لا يحتمل أن يكون هو فقرة ( رفع ما لا يعلمون ) فيتعين أن يكون هو فقرة رفع الاضطرار ، ولعل ذلك هو المطابق للوجدان أيضاً فانه قاضٍ بأنه لو مددت يدي لشرب الإناء الاول وسألني شخص كيف تمدّ يدك ؟ فأجيب بأني مضطر ، فتمام النكتة هي الاضطرار وان كان بحسب الدقَّة إمكان التفكيك حيث يقال إني لست مضطراً إلى ارتكاب هذا بخصوصه.
ولعل الشيخ النائيني(قده) يقصد هذا الذي أشرنا إليه في عبارته المذكورة في فوائد الأصول حيث قال ما نصه ( وأما وجه كون الترخيص واقعياً فهو أن الاضطرار بوجوده وان لم ينافي التكليف الواقعي إلا أنه في حال الجهل بالموضوع ينافيه ....... فان ارتكاب المكلف للحرام في هذا الحال يكون مصداقاً للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ويصح أن يقال ان ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه )
[1]
. إذن لا يبعد أن يكون الحق مع الشيخ الخراساني(قده) وان المستند في جواز مدِّ اليد لانتخاب الإناء الاول مثلاً هو حديث نفي الاضطرار فانه ما دمت جاهلاً بكون هذا هو الحرام واقعاً فيصدق عليَّ أني ارتكبته لأجل الاضطرار إليه.
يبقى كيف ندفع الوجهين السابقين اللذين ذكرناهما لتقريب كون الرفع رفعا ظاهرياً ؟ وفي هذا المجال نقول:-
أما الوجه الاول:- فقد اتضح اندفاعه ، فانه كان يقول إني لست مضطراً إلى ارتكاب هذا الاول بخصوصه حتى ترتفع حرمته الواقعية لو كانت ثابتة ، ووجه الاندفاع أن يقال:- ان المدرك في جواز ارتكابه بعد أن كان هو حديث نفي الاضطرار فالترخيص في ارتكابه سوف يكون ترخيصاً واقعياً وبذلك تنتفي حرمته الواقعية لو كانت ثابتة ، وإنما يتم الوجه المذكور لو كان الترخيص ترخيصاً ظاهرياً أي استند إلى فقرة ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) وحيث رجحنا كون المستند هو فقرة رفع الاضطرار فيكون الترخيص واقعياً فتنتفي الحرمة الواقعية.
وأما الوجه الثاني فجوابه:- ان اختيار المكلف يصح أن يُسَيِّر الحكم الشرعي في بعض الحالات وذلك فيما إذا فرض طرو عنوان ثانوي والمكلف طبَّقه على نفسه من قبيل باب الصوم فانه واجب على كل مكلف ولكن يتمكن المكلف أن يرفعه عن نفسه باختياره وذلك بأن يطبق على نفسه عنوان السفر فيسافر ، وهكذا وجوب القصر والتمام فبالعزم على البقاء عشرة أيام ينفي عن نفسه وجوب القصر والعكس بالعكس . إذن اختيار المكلف لا محذور في أن يوجه الحكم الشرعي فيما إذا فرض أن ذلك كان بتوسط بعض العناوين الثانوية . نعم من دون أن ندخل العناوين الثانوية في الحساب لا يمكن أن يكون اختيار المكلف رافعاً أو مثبتاً للحكم الشرعي ، ولكن بتوسط العناوين الأخرى لا محذور في ذلك ، ومقامنا من هذا القبيل فانه يوجد عنوان ثانوي وهو عنوان الاضطرار فان المكلف مضطر إلى ارتكاب أحد الإناءين فإذا اختار تطبيق عنوان الاضطرار على الإناء الاول فلا محذور في أن ترتفع حرمته الواقعية . إذن لا مشكلة من هذه الناحية.
وقد اتضح من خلال هذا كله ان الحق مع الشيخ الخراساني(قده) وأن الوجهين اللذين يمكن ذكرهما لدعم ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(قده) قابلان للمناقشة.
[1]
فوائد الأصول 4 107 .