وفيه:- ان الأصل الذي ندعي جريانه والمعارض للأصل الجاري في الطرف غير المضطر إليه هو أصل الطهارة قبل حدوث الاضطرار ، ولكن ما معنى جريانه وسقوطه بالمعارضة ؟ ان هذه قضية قد أشرنا إليها سابقاً وقلنا انه قد يتصور البعض أن المقصود هو أن أصلي الطهارة يجريان في كلا الطرفين فيتعارضان ويتساقطان ، فان كان المقصود هو هذا فسوف يتم ما ذكره (قده) ، بيد أنه شيء مضحك للثكلى إذ لا معنى لأن يعبِّدنا الشرع بجريان الأصل في المرحلة الأولى ثم يحكم في المرحلة الثانية بالتساقط ، انه شيء لغو .
إذن معنى التعارض هو أنه بعد أن علمنا بكذب أحدهما فدليل الأصل سوف لا يشملهما.
ونأتي إلى مقامنا ونقول:- ان المكلف يعلم قبل أن يطرأ الاضطرار بأنه إما أن هذا الإناء الذي سوف اضطر إليه حتماً بعد ساعة مثلاً يجب الاجتناب عنه إلى حين الاضطرار أو يجب الاجتناب عن الآخر إلى الأبد ، وما دام يعلم بأن وجوب الاجتناب ثابت بهذا الشكل فدليل الأصل - أعني مثل أصل الطهارة أو الحلية - سوف لا يشمل هذا في فترته القصيرة - أي إلى حين الاضطرار - ولا ذاك في فترته الطويلة - أي إلى الأبد - وبالتالي سوف يحكم العقل بعد عدم شمول الأصل لهما بلزوم تركهما - أي ترك ذاك في فترته القصيرة وهذا في فترته الطويلة - إذ لا مؤمِّن للارتكاب لفرض أن دليل الأصل لا يشملها ، وإذا حكم العقل بلزوم تركهما فلا معنى لأن نقول بجواز ارتكاب الطرف غير المضطر إليه بعد طرو الاضطرار وجريان الأصل فيه بلا معارضة لأنّا قد فرضنا أن العقل قد حكم بلزوم تركهما.
نعم لو فرض أن العقل لم يحكم سابقاً فذاك مطلب آخر ، أما بعد التسليم بحكمه بالشكل الذي أشرنا إليه فلا معنى بعد ذلك لأن نرفع اليد عن هذا الحكم العقلي فانه باقٍ كما هو ولا معنى لأن يرفع العقل يده عنه فانه تناقض منه.
والخلاصة:- ان التعارض الذي ندعيه هو أنه بعد أن فرض أنا نعلم أن هذا الإناء يسوف أضطر إليه بعد ساعة والمفروض أنا نعلم مسبقاً قبل طرو الاضطرار بأن أحدهما نجس فانا في مثل هذه الحالة سوف يحدث لنا علم إجمالي إما بأن الإناء المضطر إليه يجب تركه إلى حين الاضطرار أو ذاك يجب تركه إلى الأبد ، وبالتالي لا يمكن لدليل ( كل شيء لك حلال ) أو ( كل شيء لك طاهر ) أن يشمل هذا في فترته القصيرة وذاك في فترته الطويلة لأنا نعلم بوجوب الاجتناب عن هذا بفترته القصير أو ذاك بفترته الطويلة ، فإذا علمنا بأن دليل الأصل لا يمكن أن يشملهما فيقول لنا العقل انه لا يوجد عندكم مؤمن وما دام كذلك فيلزم ترك هذا في فترته القصيرة وذاك في فترته الطويلة ، وهذا الحكم العقلي يبقى ثابت إلى الأبد ، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نقول بجريان الأصل في الطرف الثاني بلا معارض بعد أن حصل الاضطرار فانه لا معنى له إذ فرضنا من البداية بأن العقل قد حكم بلزوم ترك هذا إلى الأبد فلا معنى الآن لأن يتنازل حكمه ويقول بالجريان.
شق ثالث:- هناك حالة ثالثة يجدر الالتفات إليها ، فانّا فيما سبق فرضنا حالتين الأولى هي أن يطرأ الاضطرار قبل العلم الإجمالي ، والحالة الثانية هي أن يطرأ الاضطرار بعده ، والآن نفترض حال ثالثة هي بين بين وذلك بأن نفترض أن العلم الإجمالي متأخر إلا أن المعلوم بالإجمال متقدم ، فأوَّلاً يوجد المعلوم بالإجمال وثانياً الاضطرار وثالثاً العلم الإجمالي كما لو فرض أن المكلف اضطر إلى شرب الإناء البارد في الساعة الثانية ثم علم في الساعة الثالثة بأن النجاسة قد وقعت في الساعة الواحدة ووجوب الاجتناب عن أحدهما حدث في الساعة الواحدة ولكن علمه بذلك تأخر إلى الساعة الثالثة وتوسط الاضطرار بين الساعة الأولى والثالثة ، فالاضطرار سابق على نفس العلم الإجمالي ومتأخر عن المعلوم بالإجمال.
وقد وقع الكلام بين الأصوليين في أن هذه الحالة هل هي ملحقة بالحالة الأولى - أعني حالة تقدم الاضطرار على العلم الإجمالي والتي اتفق فيها العلمان على أن الإناء غير المضطر إليه يجوز تناوله أيضاً - أو أنها ملحقة بالحالة الثانية التي اختلف فيها العلمان ؟
ذهب غير واحد إلى أنها ملحقة بالحالة الأولى ، يعني أنه يجوز ارتكاب الإناء غير المضطر إليه أيضاً ، والوجه في ذلك هو أن الحجية ثابتة للعلم الإجمالي وليس للمعلوم بالإجمال ، فالمعلوم بالإجمال حتى لو تقدم فذلك لا يؤثر بعدما فرض أن العلم متأخر ، فعلينا أن نلاحظ العلم دون المعلوم.
وان شئت قلت:- انه في الساعة الثانية - التي حصل فيها الاضطرار - يجوز شرب الإناء المضطر إليه لأجل الاضطرار ، والإناء الثاني يجوز شربه أيضاً لأجل أنه لا علم إجمالي إذ المفروض أنه حدث بعد الاضطرار فيجري أصل الطهارة في كليهما من باب أن لا علم إجمالي وعليه تكون هذه الحالة ملحقة بالحالة الأولى..
هذا ولكن الشيخ النائيني(قده)
[1]
ذهب إلى أن هذه الحالة ملحقة بالثانية ، وهو في الحالة الثانية بنى على وجوب الاجتناب عن الإناء غير المضطر إليه كما بنى عليه الشيخ الأعظم(قده).
[1]
فوائد الأصول 4 95، وأجود التقريرات 2 -265.