الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

33/01/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 وفيـه:- ان العلم الإجمالي الثابت في المقام ليس هو علماً إجمالياً واحداً بل يوجد علمان إجماليان وأحدهما يكون كلا طرفيه طويل الأمد ، بمعنى أنه بعد وقوع قطرة النجاسة في أحدهما سوف يحدث علم بوجوب الاجتناب إما عن الأول إلى الأبد أو عن الثاني إلى الأبد أيضاً ، هذا هو النحو الاول للعلم الإجمالي .
 وهناك علم إجمالي آخر وهو أنه لو فرض أن كلا الإناءين موجودين أمام المكلف قبل طرو الاضطرار وهو يعلم بأن النجاسة قد وقعت في أحدهما ولكن يعلم أنه بعد خمس دقائق مثلاً سوف يضطر إلى شرب البارد منهما فهنا سوف يتكون علم إجمالي آخر أحد طرفيه قصير الأمد والآخر طويل الأمد ، فهو يعلم إما بوجوب الاجتناب عن الذي يضطر إليه بعد خمس دقائق إلى فترة الاضطرار أو بوجوب الاجتناب عن الثاني إلى الأبد ، ان هذا علم إجمالي ثابت لدى المكلف بالوجدان ما دام يعلم أنه سوف يضطر إلى أحد الطرفين بعد فترة.
 وبعد اتضاح هذا نقول للحاج ميرزا علي(قده):- انك تشعر بالوجدان بأن علمك الإجمالي قد زال وتحول إلى شك بدوي وهذا صحيح ، بيد أن هذا الوجدان ناظر إلى العلم الإجمالي الاول الذي فرض أن طرفيه طويلا الأمد فذاك العلم قد تحول إلى شك بدوي ، وإما الثاني الذي أحد طرفيه قصير والآخر طويل فهو لم يتبدل بطرو الاضطرار ، بل ان المكلف قبل طرو الاضطرار كان يجزم بأنه إما أنه يحرم ذاك إلى حين الاضطرار أو هذا إلى الأبد وهذا العلم موجود حتى بعد الاضطرار ، ولا ينبغي أن نخلط بين هذين العلمين ، وأأكد أن الذي تبدل إلى الشك هو العلم الاول وأما العلم الثاني فهو باق ، وبانتهاء أمد الفرد القصير لا يعني أن العلم الإجمالي قد زال وإنما طرفه من البداية كان قصير الأمد والعقل كان يحكم قبل طرو الاضطرار - حينما التفت المكلف إلى العلم الإجمالي الدائر بين الفرد الطويل والقصير - ويقول للمكلف يلزمك ترك الفرد القصير إلى فترة الاضطرار والثاني يلزمك تركه إلى الأبد لأن لك علماً إجمالياً دائراً بين الفرد الطويل والقصير وهذا الحكم العقلي يبقى ولا يزول بانتهاء أمد أحد الطرفين.
 ان قلت:- هذا وجيه لو فرض أن المكلف كان يعلم أنه بعد فترة خمس دقائق مثلاً سوف يضطر إلى شرب الإناء البارد فيتكون لديه الآن هذا العلم الإجمالي الدائر بين الفرد القصير والطويل ويكون ساري المفعول ، أما لو فرض أنه لم يحصل لديه مثل هذا العلم وإنما طرأ الاضطرار عليه من دون علم مسبق فالعلم الإجمالي الثاني سوف لا يتكون.
 قلت:- بمجرد أن يطرأ الاضطرار ولو من دون علم مسبق سوف يتحقق لديه هذا العلم الإجمالي ، فهو يتمكن أن يقول في نفسه حينما يريد أن يمد يده ( انه حتما يحرم عليَّ إما هذا الإناء من البداية إلى الآن أو يحرم علي الإناء الثاني إلى الأبد ) فالعلم الإجمالي يتكون ولو قبل العلم المسبق.
 بل نتمكن أن نقول:- حتى قبل التناول وقبل عروض الاضطرار بساعة أو بساعات فان المكلف يتمكن أن يقول في نفسه ( لو اضطررت إلى هذا الطرف فانه سوف يجب عليَّ ترك هذا الإناء إلى الاضطرار أو ذاك إلى الأبد ) . فتكوُّن العلم الإجمالي الذي يدور بين الفرد الطويل والقصير ثابت في نفس المكلف حتى قبل طرو الاضطرار وحتى قبل أن يعلم بطروه ، ومعه يكون منجزاً ، وهذا ينبغي أن يكون من المطالب الواضحة.
 والشيء الغريب من الحاج ميرزا علي(قده) أنه ترك وجدانه واخذ يسير وراء الصناعة ، فان الوجدان قاض بأن مجرد إراقة أحد الإناءين أو تناوله لا يكفي مجوزاً لارتكاب الإناء الثاني فان ذلك الحكم العقلي الذي كان يقول في البداية ( يلزمك ترك الإناءيـن معاً مـن بـاب المقدمـة العلمية ) ليس مقيداً بعدم إراقة أحدهما بل هو مطلق من هذه الناحية ، ان هذا أمر وجداني فكيف تركه لأجل الصناعة !!
 وقد نبهت أكثر من مرة على ضرورة المحافظة على الوجدان وعلينا أن نفكر في إيجاد صيغة صناعية نكيِّف بها ذلك الوجدان.
 والصيغة التي يمكن أن تذكر هي ما أشرنا إليه من أن المكلف دائماً يعيش معه هذا العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الفرد القصير والطويل جنباً إلى جنب مع ذلك العلم الإجمالي الكبير. وهذا من المطالب الجميلة التي ينبغي الالتفات إليها.
 وذكر السيد الروحاني(قده) [1] كلاماً ربما يكون قريباً مما ذكره الحاج ميرزا علي(قده) وحاصله:- ان الإناء المضطر إليه ما دام قد اضطر إليه فالأصل سوف لا يجري فيه ويبقى آنذاك الأصل جارياً في الطرف غير المضطر إليه بلا معارض فيجوز ارتكابه من باب وجود أصل مؤمِّن من دون معارض ، أما لماذا لا يجري الأصل في الطرف المضطر إليه ؟
 ذكر في هذا المجال أن الأصل لو جرى فيه فهو متى يجري ؟ هل يجري بعد الاضطرار إليه أو قبل الاضطرار إليه ؟ أما بعد الاضطرار إليه فنحن نجزم بالحلية وجواز شربه ولا يوجد شك حتى تصل النوبة إلى أصل الحليَّة والبراءة ليكون معارضاً للأصل في الطرف الثاني ، وأما قبل الاضطرار إليه فالأصل وان كان يجري ولكنه يجري بلحاظ مقدار تلك الفترة فان الأصل حينما يجري في الدقيقة الأولى يكون معارضاً للأصل في الطرف الثاني في نفس تلك الدقيقة ويتساقطان بلحاظها ، وحينما تأتي الدقيقة الثانية يحصل جريان جديد للأصل وتحصل بالتالي معارضة جديدة وتساقط ...... وهكذا ، ففي كل لحظة هناك جريان جديد للأصل ومعارضة جديدة.
 فإذا قبلنا هذا فنقول:- انه في الدقيقة الثابتة قبل الاضطرار كان الأصل قابلاً للجريان فيسقط بالمعارضة مع صاحبة ، وأما في الدقيقة التي فيها الاضطرار فهنا لا يجري لأجل الجزم بحليته فيبقى الأصل في الطرف الثاني جارياً بلا معارضة.
 ثم قال (قده):- ان هذا الكلام نذكره في جميع الحالات - أي حتى في حالة إراقة أحد الإناءين أو تطهيره بل حتى إذا شرب أحدهما - فبعد شربه لا يجري الأصل فيه لأنه صار سالبة بانتفاء الموضوع فيجري الأصل في الطرف الثاني بلا معارض.
 ثم قال(قده):- ان هذا الكلام يتم على مسلك الاقتضاء الذي يقول بأن تنجيز العلم الإجمالي فرع تعارض الأصول ، وحيث أنا نشعر بالوجدان أن الطرف الثاني يلزم اجتنابه حتى بعد إراقة الإناء الاول أو شربة فينبغي أن يكون هذا نقضاً وردّاً على مسلك الاقتضاء حيث نقول لهم ان هذا المسلك يلزم منه في مورد إراقة أحد الإناءين جواز تناول الإناء الثاني ، وهل تلتزمون بذلك ؟ وهذا رد على مسلك الاقتضاء وترجيح لمسلك العلية .


[1] منتقى الأصول 5 107 ,113.