الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الاصول

32/11/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الرأي الثاني:- وهو للشيخ العراقي(قده)[1] وحاصله أن العلم الإجمالي يتعلق بالواقع وليس بالجامع ، فلو فرض أنه كان لدينا إناءان نعلم إجمالاً بوقوع قطرة بول في أحدهما وكان الذي وقعت فيه القطرة في علم الله عز وجل هو الأول فالعلم الإجمالي يتعلق بهذه النجاسة - أي بنجاسة الإناء الأول - وليس بإحدى النجاستين أو بنجاسة أحدهما ، كلا بل بالواقع.

 وبكلمة أخرى:- كما أن العلم التفصيلي يكون متعلقاً بالواقع وليس بالجامع كذلك العلم الإجمالي هو متعلق بالواقع وليس بالجامع.

 ولكن لو قلت إذن فما هو الفارق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي ما داما معاً متعلقين بالواقع فانه يلزم عدم وجود فارق بينهما والحال أن الفارق موجود جزماً وإلا فكيف صار هذا علماً إجماليا وذاك علماً تفصيلياً ؟

 أجاب(قده) عن ذلك وقال:- إن الفارق هو أن العلم الإجمالي كالمرآة غير الصافية بخلاف العلم التفصيلي فانه مرآة صافية وواضحة ، فالإنسان حينما يأخذ المرآة فتارةً يكون على المرآة أمور تمنع من وضوح الصورة وأخرى تكون المرآة واضحة وليس عليها شيء ، إن الفارق بين العلم الإجمالي والتفصيلي هو أن العلم الإجمالي كمرآة غير واضحة والتفصيلي كمرآة واضحة ، فالمرئي في المرآة الصافية وغير الصافية واحد وهو أنا الذي أنظر ولكن إحدى الرؤيتين واضحة والثانية ليست بواضحة والعلم الإجمالي هو كذلك رؤية غير واضحة بينما التفصيلي هو رؤية واضحة وكلاهما رؤية للواقع.

 ويمكن أن نمثل بمثال آخر وهو أن الفارق من قبيل ما لو رأينا شخصاً من بعيد ولا ندري أنه زيد أو عمرو فان النظر يقع على الواقع ، فلو كان في الواقع أن ذلك الشخص كان هو زيد فالنظر يقع على زيد وليس على الأحد - أي الجامع - غايته لا تكون الرؤية واضحة بل مشوبة بخفاء بخلاف ما إذا تقرب مني فاني سوف أراه برؤية واضحة ليست مشوبة بالخفاء.

 إذن العلم الإجمالي والتفصيلي كلاهما متعلق بالواقع غايته في الإجمالي يكون العلم المتعلق بالواقع مقترناً بشيء من الخفاء بينما في العلم التفصيلي لا يكون مقترناً بذلك.

 وهذا المثال يمثل بجلاء ما يريده الشيخ العراقي(قده) فالمرئي واحد والاختلاف في الرؤية.

وان شئت قلت:- المعلوم في كليهما واحد والاختلاف هو في العلم فان أحد العلمين قد اقترن بالخفاء بخلاف العلم الثاني .

 إن هذا هو مدعى الشيخ العراقي(قده).

 ولكن كيف يثبت (قده) هذا المدعى ، فنحن إلى الآن اتضح لنا مدَّعاه ولكن نحتاج إلى إثبات كونه هو الصحيح في مقابل مدعى العلمين السابقين ؟

 والدليل على إثبات مدَّعاه هو نفس الإشكال الذي سجله على العلمين ، فان بإمكانه وان لم يصرح هو بذلك سحب ذلك الإشكال وجعله كدليل على هذا المدعى وذلك بأن يقول هكذا:- لو كان العلم الإجمالي علماً بالجامع - كما يقوله العلمان - وليس علماً بالواقع فكيف ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم التفصيلي بكامله - أي بكامل المعلوم التفصيلي لا انه ينطبق على نصفه - فلو فرض في مثال الإناء أني علمت تفصيلاً بأن الإناء النجس الذي وقعت فيه قطرة البول هو الإناء الأول فيلزم أن لا يصح قولي ( هذا الإناء هو بكامله معلوم بالإجمال ) بل المناسب أن أقول ( بعضه - واقصد من البعض عنوان الأحد أي الجامع فان الفرد عبارة عن الجامع زائداً الخصوصيات - ) فلو كان العلم الإجمالي يتعلق بالجامع للزم أن ينطبق المعلوم بالإجمال على نصف المعلوم بالتفصيل ونشير إلى الإناء الأول ونقول بعض هذا المعلوم التفصيلي ونصفه هو المعلوم بالإجمال ، والحال أن الوجدان قاضٍ بالخلاف ، فنحن نشير إلى المعلوم التفصيلي بكامله ونقول هو المعلوم بالإجمال ، وهذا إن دل فإنما يدل على أن متعلق العلمين شيء واحد وهو الواقع وليس الجامع .

 هذا ما يمكن به توضيح مدعى الشيخ العراقي(قده) والدليل عليه.

وأشكل على مدعى الشيخ العراقي بعدة إشكالات:-

الإشكال الأول:- للسيد الخوئي(قده)[2] وحاصله أن العلم الإجمالي إذا كان يتعلق بالواقع فما رأيك فيما لو فرض أن النجاسة كانت في علم الله ليست ثابتة في الإناء الأول بخصوصه بل هي ثابتة في كليهما يعني قطرة من البول وقعت في الإناء الأول وأخرى وقعت في الإناء الثاني ولكني رأيت قطرة واحدة وقعت في أحد الإناءين من دون تشخيص ولم أرَ كلتا القطرتين ، فالعلم الإجمالي علم بوقوع القطرة بأحدهما وبنجاسة أحدهما ولكن في الواقع قد وقعت في كل من الإناءين قطرة فكلاهما نجس ، انه هنا نسأل الشيخ العراقي بم يتعلق العلم الإجمالي ؟ هل يتعلق بنجاسة الإناء الأول فقط أو بنجاسة الإناء الثاني فقط أو بنجاستهما معاً أو لا بهذا ولا بذاك ؟ إن الجميع باطل ، فلا يمكن أن يتعلق العلم الإجمالي بنجاسة الإناء الأول لأن المفروض أن الثاني نجس أيضاً ، ولا بنجاسة الثاني لنفس النكتة لأن الأول نجس أيضاً ، ولا بنجاستهما معاً لأن المفروض أنا نعلم بنجاسة أحدهما ، وأما الرابع فهو باطل أيضاً لأنه مستحيل إذ كيف يكون علماً بلا معلوم.

 ومن هذا يتبين أن العلم الإجمالي لا يتعلق بالواقع وإلا يلزم هذا الإشكال وهو أن يبقى العلم في موردنا بلا معلوم ، فالصحيح إذن هو تعلق العلم الإجمالي بالجامع - أعني الأحد - فلا يرد الإشكال آنذاك.

[1] نهاية الأفكار 3 299.

[2] ذكره في هامش أجود التقريرات 1 183 ط قديمة ، والمحاضرات في أصول الفقه 4 47 ط قديمة.