الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الاصول

32/11/02

بسم الله الرحمن الرحیم

تنبيهات في المقام:-

التنبيه الأول:- ذكرنا فيما سبق أن ضابط البراءة كون الشك شكاً في أصل التكليف.

وقد يشكل ويقال:- هناك موردان يكون الشك فيهما شكاً في أصل التكليف ومع ذلك لا يقال فيهما بالبراءة بل يحكم بالاشتغال ، فكيف المخلص وما هو التوجيه الفني للاشتغال رغم أن المناسب هو البراءة ؟ والموردان هما:-

الأول:- إذا فرض أن الزوال قد حل على المكلف وقبل الغروب بساعة مثلاً شك بأنه أدى صلاة الظهر أو لا ؟ ذكر الفقهاء بأن هذا المورد يجري فيه الاشتغال لأنه شكٌ في الامتثال والشك في الامتثال مجرى للاشتغال دون البراءة.

 والإشكال هو:- يمكن أن يقال إن الأصل الجاري هو البراءة دون الاشتغال ، فان المورد من موارد الشك في أصل التكليف لأن المكلف لو كان قد امتثل وصلى في علم الله في بداية الوقت فلا تكليف الآن بفعل الظهر وإلا فيوجد تكليف أنه ما دام يشك في الامتثال وعدمه فقهراً سوف يشك في ثبوت التكليف وعدمه ، فمن المناسب آنذاك البراءة دون الاشتغال لأن ضابط البراءة هو الشك في ثبوت التكليف وهنا الشك في ثبوت التكليف أيضاً ، أن هذا إشكال صناعي علمي فكيف الخلاص منه ؟

وأساعدك على شيء:- إننا قد نشعر أحيانا أن ما يذكر ليس إلا شبهة في قبال الوجدان ، فالوجدان قاض بأن المورد من موارد الاشتغال دون البراءة وما ذكرناه ليس إلا شبهة في قبال بديهية ، ومثل هذا الوجدان شيء ينبغي التحفظ عليه وهو رأس مال كبير علينا أن نحتفظ به حتى يصير منطلقاً للتفكير في كيفية حل الشبهة لا أن نتنازل عنه ونجري البراءة ، إن التنازل عن الوجدان والخضوع للصيغة الفنية والعلمية شيء غير صحيح وقد يقع فيه الفقيه أو الأصولي من حيث لا يشعر من قبيل ما صنعه صاحب الكفاية(قده) في مبحث الجملة الشرطية فانه قال إن الجملة الشرطية ليس لها مفهوم لأن ثبوت المفهوم يتوقف على كون الشرط علة منحصرة ، وحاول(قده) بعدة تقريبات أن يثبت أن الشرط علة منحصرة ولم يفلح وانتهى بالتالي إلى أنه لا مفهوم للشرطية - أو لا أقل فيه إشكال - انه هجر وجدانه العرفي السليم الصادق القاضي بأن الشرطية لها مفهوم لأجل أن الصناعة لم تساعده ، وهذا شيء خطير. وهو(قده) قد قال هذا في الأصول ولم يعمل به في الفقه وإلا سوف يخرج بفقه جديد.

 والمهم عندي هو أننا لابد وأن نحافظ على هذا الشعور الوجداني ونجعله منطلقاً لحل الإشكال.

وقد يخطر إلى الذهن في مقام الجواب:- إن العقل حاكم في موارد الشك في سقوط التكليف بالاشتغال فان الاشتغال اليقيني يقتضي عقلاً الفراغ اليقيني ، وهنا نشك في سقوط التكليف فيحكم العقل بالاشتغال ، فالمناسب هو الحكم بالاشتغال دون البراءة.

 وبكلمة أخرى:- نسلم في موردنا أنه يوجد شك في ثبوت التليف ولكنه شك ناشئ من احتمال السقوط بعد الثبوت وفي موارد الشك في السقوط بعد الثبوت يحكم العقل بالاشتغال ، انه لأجل ذلك لم يجر الأصوليون البراءة وأجروا الاشتغال.

قلت:- صحيح أن العقل في موارد الشك في الثبوت الناشئ من الشك في السقوط يحكم بالاشتغال ولكنه حكم تعليقي ، يعني أن العقل يحكم بالاشتغال إذا فرض أن الشرع لم يؤمِّن المكلف ، أما إذا أمَّنه فالعقل يرفع يده عن الحكم بالاشتغال إذ بعد تأمين الشرع لا معنى لأن يظل العقل مصراً على الاشتغال.

 وبكلمة أخرى:- العقل إنما يحكم بالاشتغال تحفظا على حق صاحب الحق فإذا فرض أن صاحب الحق نتنازل فلا معنى لأن يظل العقل مصراً على الاشتغال ، وفي مقامنا يمكن أن نقول إن الشرع قد جعل لنا مؤمِّنا وهو إطلاق مثل حديث ( رفع ما لا يعلمون ) واذكره كمثال لمطلق أدلة البراءة الشرعية- إن مقتضى إطلاق البراءة الشرعية هو رفع ما لا يعلم أعم من كون المورد من موارد الشك في أصل الثبوت أو من موارد الشك في الثبوت الناشئ من احتمال السقوط ، فبالتالي ما دمنا لا نعلم بالتكليف الآن فيشملنا إطلاق دليل ( رفع ما لا يعلمون ) إن هذا مؤمِّن شرعي ، وبعد وجوده يرفع العقل يده عن الحكم بالاشتغال لأن حكمة معلق - وهذه نكتة ظريفة - فكيف الجواب ؟

ويمكن أن نجيب بجوابين:-

الجواب الأول:- التمسك بالاستصحاب فيقال انه يوجد لدينا طريق يثبت بأن التكليف السابق ثابت وهو الاستصحاب ، وحيث أن الاستصحاب مقدم على البراءة فلا يعود مجال للبراءة وتكون النتيجة هي الاشتغال لعدم جريان.

الجواب الثاني:- إذا غضضنا النظر عن الاستصحاب فيمكن أن نجيب بقصور دليل البراءة عن الشمول لمثل المورد المذكور ، وأقصد بالصراحة التمسك بالانصراف ، أي أن المنصرف من دليل ( رفع ما لا يعلمون ) هو حالة ما إذا شك في أصل ثبوت التكليف من البداية لا ما إذا علم به وشك الآن في ثبوته بسبب احتمال السقوط بالامتثال ، إن حديث ( رفع ما لا يعلمون ) وما شاكله منصرف عن الحالة المذكورة ، وهو ليس ببعيد ، فان قبلت هذه الدعوى فيتم ، وإلا يبقى ذلك الجواب.

يبقى شيء:- وهو أن أصل هذا الإشكال من الأساس مبني على أن الامتثال من مسقطات التكليف ، أما إذا قلنا أنه لا يسقط التكليف وإنما يرفع الفاعلية دون الفعلية فالإشكال لا مجال له من الأساس.

 وتوضيح ذلك:- إن الشيخ العراقي(قده) وغيره ذهب إلى أن الامتثال لا تسقط به فعلية التكليف ووجوده الفعلي وإنما تسقط محركيته رغم بقاءه ، نظير ما إذا فرض أن الإنسان كان يريد الأكل لأنه جائع فأكل وشبع فانه بعد أن شبع هل أن إرادته للأكل وشوقه وحبه له يزول من الأساس أو هو باقٍ ولكن لا يحركه نحو الأكل ؟ الصحيح هو أن الشوق والإرادة والحب ثابت رغم امتلاء البطن بقرينة أنه قد يحتفظ بالطعام لحين جوعه وهذا معناه أن الشوق والحب للطعام باقياً غايته لا يكون هذا محركاً وباعثاً فهو ساقط فاعلية وليس بساقطٍ فعليةً ، وذا قلنا هذا فيمكن أن نقول إن التكليف هو كذلك لأن روح التكليف بالإرادة وحيث أن الإرادة لا تزول فعليتها بتحقق متعلقها فهي باقية على مستوى الفعلية دون الفاعلية.

 انه لو بنينا على هذا فالإشكال مندفع من الأساس إذ نقول:- انه حتى لو فرض أنا قد امتثلنا التكليف واتينا بالصلاة فهو ثابت بَعدُ لا أنه زال وإنما زالت فاعليته فلا يعود آنذاك مجال لتطبيق أصل البراءة ، وإنما المجال موجود لو كنا نشك في أصل ثبوت التكليف بنحو الفعلية كالتدخين حينما نشك في أنه توجه إليه التكليف بنحو الفعلية وثبت له بنحو الفعلية أو لا فهنا يجري أصل البراءة ، وأما إذا كان ثابتاً بنحو الفعلية وساقطاً بنحو الفاعلية فلا يعود مجال للتمسك بأصل البراءة ويكون الإشكال مرتفعاً من الأساس.