الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الاصول
32/10/27
بسم الله الرحمن الرحیم
ويمكن أن نوحدهما وندخلهما تحت عنوان وضابط واحد بالبيان التالي:- انه في المورد الأول - أعني الحالة الاولى - فرض أن الشك كان في تحقق القيد كما إذا شك الشخص أنه بالغ أو لا ، مستطيع أو لا ، ان هذا شك في قيد التكليف وهو يستلزم الشك في ثبوت التكليف من الأساس فيكون مجرى للبراءة ، والمورد الثاني أيضاً يكون الشك فيه في قيد التكليف ، فان اتصاف الخبر بكونه كذباً قد أخذ قيداً في الحرمة فإذا شك في تحقق الاتصاف فقد شك في قيد الحرمة وبالتالي شك في أصل ثبوت الحرمة .
إذن في كلا الموردين يكون الشك شكاً في قيد الحرمة غايته في المورد الأول يكون القيد قد أخذ بنحو مفاد كان التامة يعني أن تحقق البلوغ قد أخذ قيداً في الحرمة ، بينما في المورد الآخر يكون الشك في القيد أيضاً ولكن بنحو مفاد كان الناقصة أي نشك في اتصاف الخبر بكونه كذباً.
إذن الى الآن عرفنا أن البراءة تجري متى ما كان الشك في قيد التكليف غايته أن قيد التكليف له نحوان ، فتارة يكون الشيء قيداً للتكليف بنحو مفاد كان التامة وهذا هو الحالة الاولى ، وأخرى يكون قيداً بنحو مفاد كان الناقصة وهذا هو الصورة الثانية من الحالة الثانية ، هذا كله بالنسبة الى الحالة الاولى والحالة الثانية.
الحالة الثالثة:- أن يكون الشك بلحاظ الموضوع - أعني متعلق المتعلق ، كما إذا شككنا أن هذا السائل خمر أو لا ، فمثال الخمر هذا قد ذكرناه مرتين مرة في الحالة الثانية ومرة هنا ولكن في الحالة الثانية كنا نفترض أن السائل خمر جزماً ولكن نريد أن نزرِّق منه بالوريد بواسطة الإبرة فهذا شك بلحاظ الشرب ، أي المتعلق ، وأما الآن فنريد أن نشرب هذا السائل ونشك هل هو خمر أو لا وهذا شك بلحاظ متعلق الشرب ، أي متعلق الحرمة ، فإذا شككنا أن هذا خمر أو ليس بخمر فهذا شك بلحاظ الموضوع ، أو قيل ( يجب إكرام العالم ) وشككنا أن هذا الشخص عالم أو لا ، لا أن شككنا في أن هذا إكرام أو لا ، وهذا شك بلحاظ الموضوع فهناك صور ثلاث:-
الصورة الاولى:- أن يؤخذ الموضوع بنحو الوجود الاستغراقي والشمولي ، يعني يكون الحكم منحلاً بعدد أفراد الموضوع ويكون لكل فرد من الموضوع حكم كما لو قيل ( يحرم عليك شرب الخمر ) فكل فرد يثبت له الحكم بالحرمة ، والدليل على التعدد كما قلنا هو تعدد العقوبة ، فلو شرب شخص الخمر وبعد ساعة شرب مرة أخرى فسوف تصير عقوبته أشد ، وإذا شرب إناءاً وترك الآخر فيعد عاصياً من ناحيةٍ ومطيعاً من ناحيةٍ أخرى وهذا دليل على التعدد.
الصورة الثانية:- أن يكون الموضوع مأخوذاً بنحو البدلية ، أي يكون الحكم واحد متعلق بفرد واحد من الموضوع على نحو البدل كما لو قيل ( يجب عتق رقبة ) أي ( رقبة ما ) فالواجب هو عتق رقبة ما بنحو البدل فهناك وجوب واحد تعلق برقبة ما على نحو البدل.
الصورة الثالثة:- أن يكون الموضوع مأخوذاً بنحو المجموع ، أي يكون الحكم واحداً ولكنه تعلق بالمجموع من حيث هو مجموع لا أن كل فرد له حكم مستقل ، كما لو قيل ( يجب إكرام مجموع العلماء ) بحيث أن مجموع العلماء قد لوحظ كأنه واحد وثبت له وجوب واحد ، فالحكم واحد وقد ثبت للمجموع من حيث هو مجموع ، ولو لم يكرم واحداً من العلماء كما لو أكرم تسعة وتسعين ولم يكرم واحداً فسوف يكون عاصياً فقط لأن هناك حكماً واحداً تعلق بالمجموع بما هو مجموع لا أنه مطيعاً بلحاظ التسعة والتسعين وعاصياً بلحاظ الواحد فالتفت الى ذلك.
ونتكلم في هذه الصور الثلاث تباعاً:-
أما الصورة الاولى:- وهي أن يكون الحكم متعدداً بعدد أفراد الموضوع كما لو قيل ( لا تشرب الخمر ) فانه ينحل الى حرمات متعددة بعدد أفراد الخمر ، وهكذا لو قيل ( يجب إكرام كل واحد من العلماء ) فانه هنا توجد وجوبات متعددة بعدد أفراد العالم ، وحينئذ لو شككنا في سائل أنه خمر أو لا فهل يجب اجتنابه ؟ والجواب كلا ، لأن العرف كما يفهم بلحاظ المتعلق أن الاتصاف بعنوان المتعلق قد أخذ قيداً في الحكم كذلك يفهم بلحاظ الموضوع أن الاتصاف بعنوان الموضوع قد أخذ قيداً في الحكم ، فحينما يقال ( يحرم عليك كل فرد من الخمر ) فالمقصود أن هذا السائل ان صدق عليه أنه خمر فيحرم عليك ، وان صدق على ذلك الفرد أنه خمر فيحرم عليك ، كما هو الحال في المتعلق فانا كنا نقول ان صدق على المورد أنه شرب فيحرم وهنا أيضا كذلك ، يعني أن العرف يفهم هذا الشيء بلحاظ الموضوع ، وعلى هذا الأساس إذا شككنا في أن هذا السائل خمر أو لا فيكون ذلك مستلزماً للشك في التكليف فتجري البراءة، ، وهكذا الحال بالنسبة الى ( يجب إكرام كل فرد من العلماء ) فانه يفهم أخذ قيد الاتصاف من ناحية الموضوع ، يعني ان صدق على هذا أنه عالم فيجب إكرامه وحيث أني أشك في صدق العالم على هذا الفرد فيكون ذلك مستلزما للشك في فعلية الوجوب فتجري البراءة.
والشيخ النائيني (قده) ذهب الى هذا أيضاً ، أي قال بجريان البراءة عند الشك في كون السائل خمراً ، ولكنه علل بتعليل آخر يقرب مما ذكرناه ولكنه يختلف عنه روحاً ومضموناً ، فهو قد ذكر أن فعلية الحكم هي بفعلية موضوعه خارجاً ، يعني أن حرمة الخمر تتولد عند وجود الخمر في الخارج فإذا وجد هذا الفرد من الخمر فآنذاك تثبت له الحرمة ، فالوجود الخارجي قد أخذ قيداً في فعلية الحرمة ، ومن هنا جاءت عبارته المشهورة ( ان فعلية الحكم هي بفعلية موضوعه ، يعني بوجوده الخارجي وعلل دوران فعلية الحكم مدار وجود الموضوع خارجاً بهذا التعليل ( بداهة أن الخمر إذا لم يكن موجوداً في الخارج فلا معنى لتحقق المفسدة في شربه ولا معنى للنهي عنه إذ الخمر الذي لا وجود له في الخارج يكون الشرب منتركاً بنفسه فالمنهي عنه ليس إلا الأمر الموجود )[1] .
إذن هو يتفق بحسب النتيجة مع ما انتهينا إليه ولكن يختلف بالطريق للوصول إليها ، فنحن ذكرنا أن الاتصاف بعنوان الموضوع أخذ قيداً في الحكم دون الوجود الخارجي ، وأما هو (قده) فقد أخذ الوجود الخارجي قيداً في الحكم.
وعليه فمتى ما شككنا في أن هذا خمر أو لا فسوف نشك في الاتصاف فيأتي على ما ذكرنا أنه سوف نشك في فعلية الحرمة فتجري البراءة ، وعلى ما ذكره(قده) سوف نشك في تحقق الخمر خارجاً وبالتالي سوف نشك في فعلية الحرمة فتجري البراءة.
إذن على كلا البيانين نصل الى نتيجة واحدة ولكن هل يترتب على ذلك أثر عملي ، وكيف نعين البيان الذي ذكرنا في مقابل ما ذكره هو (قده) ؟
[1] تقريرات كتاب الصلاة لتلميذه الشيخ محمد علي الكاظمي في مبحث اللباس المشكوك ج1 ص272.