الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 96 ) حكم عدم جواز بيع المسجد وجواز بيع بقية الأوقاف العامة في أحد الصور الست المتقدمة - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

وقد يوجه عدم جواز بيع المساجد ببيان: - إنَّ من أحد شراط صحة البيع هو ملكية العوضين، فأنا مثلاٍ لابد لي أن أملك الشيء حتى أبيعه، وأملك الثمن حتى أسلّمه، فالبيع مشروط في المرحلة السابقة بملكية العوضين، وحيث إنَّ المسجد ليست وقفيته ترجع إلى التمليك بل إلى فكّ وتحرير الملك لله عزَّ وجلَّ فهو فك للملك لا إثبات للملك، فإذاً الملكية ليست موجودة، وإذا لم تكن الملكية موجودة فأيّ شيء تبيع، وشرط البيع هو الملكية؟!!

ولكن يردّه أمران: -

الأول:- من أين لك أنَّ الملكية شرط في صحة البيع، بل لم يثبت أنَّ من شرائط صحة البيع هو ذلك، نعم في الشيء المملوك شرط صحة بيع أن يبيع المالك أما الشيء الذي هو ليس بمملوك لأحد من قال إنَّ شرط صحة بيعه هو الملكية، فلا نسلّم أنَّ الملكية هي من أحد شرائط صحة البيع العامة، ولذلك في باب الزكاة قد يبيع الفقيه بالولاية الحصة الزكوية إذا اقتضت المصلحة ذلك كما لو كانت زائدة وسوف تتلف لو بقيت والحال أنها ليست مملوكة لشخص ولا له نعم هو له الولاية من باب المصلحة العامة، ولو كان الأمر كذلك فالمسجد أيضاً من باب المصلحة العامة يجوز فيه أن يتصدى الولي الفقيه لبيعه.

الثاني: - إنَّ الملكية إن كانت شرطاً فهي شرط في الشيء القابل لأن يكون ملكاً أما الشيء الذي لا يقبل أن يكون ملكاً فنم قال إن الملكية هناك شرط؟!! فإذاً هذا الاستدلال لا يفعنا شيئاً ولابد من الاتيان بدليل آخر.

وفي هذا المجال يمكن أن نذكر دليلين: -

الدليل الأول: - وهذا الدليل ننطلق فيه من النقطة التي أشرنا إليها، وهي أنَّ بعض الأحكام واضحة ولكن الدليل عليها مشكل، فإنَّ بيع المسجد من الواضح أنه لا يجوز والكل يعرف ذلك ولكن الدليل غير معروف ولكن نحن نستفيد من هذا الوضوح ونجعله دليلاً وذلك بالصياغة التالية:- وهي أن يقال هناك تسالم ووضوح بين جميع المسلمين في أنَّ المسجد لا يجوز بيعه وهذا الوضوح ليس موجوداً في زماننا هذا بل هو موجود في كل الزمنة فنحن عندنا وضوح في هذا الزمن تلقيناه من الوضوح في الجيل السابق علينا والجيل السابق أيضاً هذا الوضوح موجود عنده وقد تلقاه من اليل السابق وهكذا إلى أن نصل إلى عصر المعصوم عليه السلام فنقول كان هناك وضوح أو ارتكاز في الجوّ الذي يعيشه الأصحاب مع الامام في أنَّ المسجد لا يجوز بيعه، وهذا الوضوح أو الارتكاز لا يتحقق من دون علة فلابد أنه قد حصل تلقّي من أجواء واضحة فيمن يعيش مع الامام عليه السلام، فهذه القضية كانت من القضايا الواضحة التي لا يسأل عنها وبالتالي هذا الوضوح سوف يصير معلولاً لمعدن العصمة والطهارة.

ويمكن أن يستدل بهذا الدليل في جميع الأحكام الواضحة ولكن بشرط عدم وجود نص وإلا فيحتمل أن يكون المنشأ هو النص أو يوجد نص ولكن الوضوح أقوى من النص، فالنص الموجود قد يكون ضعيفاً وفيه تأمل من بعض الجهات ولكن الوضوح الموجود بين الطائفة هو أشد وأقوى من هذا النص فهنا أيضاً يمكن أن نستند إلى هذا البيان، فهذا البيان سيّال في جميع الموارد التي يكون فيها الحكم واضحاً بين الطائفة ولا يوجد نص أو يوجد نص ولكنه ضعيف من جهة وأخرى والارتكاز الذي عندنا أشد من النص فهنا يمكن الاستناد إلى هذا البيان الذي ذكرناه.

الدليل الثاني: - إنَّ المسجد وقف والوقف لا يجوز بيعه إلا ضمن ضوابط أحدها الخراب والثاني إذا اشترط الواقف ذلك والثالث أن يتلاءم مع غرض الواقف وإن لم يشترط - فهو لا يتنافى مع غرض الواقف[1] ، ففي مثل هذه الحالات الثلاث يمكن أن يقال بجواز البيع، أما الحالة الأولى فلا تصلح أن تكون مبرراً لجواز بيع الوقف والوجه في ذلك ما أشرنا إليه فيما سبق من أنَّ المسجدية قائمة بالعرصة - الأرض - لا بالجدران ولا بالسقف ولا بغير ذلك والأرض لا يعرض لها الخراب وإنما الخراب إن عرض فهو يعرض للجدران أو للسقف لا الأرض، فهذا المجوّز الأول لا يمكن أن نأخذ به، وأما الحالة الثانية - وهي اشتراط الواقف ذلك أثناء الوقفية بأن يقول الواقف أوقفت فهذا المكان مسجداً بشرط أنه متى ما رأى المتولي المصلحة في البيع فليبع ويبدله بمسجد آخر - فهذا الشرط يحتاج إلى مجوّز وأنَّ الوقف يجوز بيعه إذا اشترط الواقف ذلك والمجوّز أحد أمرين إما قاعدة ( المؤمنون عند شروطهم ) فهذا اطلاق فنتمسك بإطلاقة للمقام، أو يفترض أننا نتمك بالروايات الخاصة الواردة في جواز بيع الوقف إذا اشترط الواقف ذلك وهو صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ( بعث إلي أبو إبراهيم عليه السلام بوقفية أمير المؤمنين عليه السلام .... ) لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام عنده أملاك وقد أوقفها على ذريته وقال ( إذا ارتأى الحسن عليه السلام أن يبيع فليبع )، فهو عليه السلام خوّله البيع وهذا يفهم منه أنَّ الواقف إذا اشترط جواز البيع عند طروّ حاجة أو ما شاكل ذلك فيجوز البيع مادام قد اشترط اثناء الوقف، فالمجوز لبيع الوقف عند الاشتراط هو أحد هذين الأمرين وكلاهما لا يمكن التمسك به، أما عموم ( المؤمنون عند شروطهم ) فيمكن أن يقال هو ناظر إلى حيثية الالزام لا إلى حيثية الصحة، يعني هو يقو إذا اشترط إنسان شرط لصاحبه في عقد من العقود فمادام هو مؤمن فلابد أن يلتزم بهذا الشرط لا أنه يتركه في الاثناء نعم إذا اتفق الاثنان على ترك الشرط وعدم العمل به فهنا لا مشكلة أما إذا تراجع الطرف وقال أنا لا أعمل بالشرط فهذا ليس له لأن الرواية قالت ( المؤمنون عند شروطهم ) يعني لا ينفك الايمان عن الوفاء بالشرط وإلا لم تكن مؤمناً، فإذاً هي ناظرة إلى الالزام بالشرط لا أنَّ كل شرط هو صحيح، فإنَّ هذا ليس تعميماً من حيث الصحة وأنَّ كل شرط من الشروط هو صحيح إلا ما خرج بالدليل، وإنما هو ناظر إلى أنَّ كل شرط اشترط يلزم الوفاء به، فهو ناظر إلى حيثية اللزوم بعد الفراغ من حيثية الصحة، فهو ناظر لا إلى التصحيح وإنما هو ناظر إلى اللزوم، ونحن في موردنا نريد أن نثبت الصحة لا أننا نريد أن نثبت اللزوم فنحن نريد أن نثت أن الواقف إذا اشترط بيع المسجد فيصح فنحن نريد أن نثبت الصحة والصحة لا تستطيع اثباتها بهذا العموم فإنَّ هذا العموم ناظر إلزام بما هو صحيح فما ثبتت صحته في المرحلة الأولى يثبت الالزام بنه.

إن قلت: - لماذا تفسّره بالإلزام بكل شرطٍ صحيح وإنما فسّره بأنه ناظر إلى تصحيح كل شرطٍ؟

قلت: - إما أن يقال إنَّ ظاهر الحدث هو النظر إلى حيثية الالزام لأنه يقول ( المؤمنون عند شروطهم ) يعني وإلا لم يكن مؤمناً فهو ناظر إلى هذه الحيثية وإذا أراد أن يبين الصحة لا يعبر بتعبير ( عند شروطهم )، فعندما قال ( عند شروطهم ) يعني حيثية الايمان تقيّد المؤمن وتجعله وفيّاً بشروطه، فإذا قبلت بهذا الاستظهار - والاستظهار مسألة وجدانية لا نستطيع إلزام الجميع بها - فبها ونعمت، وإلا فيوجد طريق آخر أسهل حيث نقول:- إنَّ احتمال أن يكون المقصود هو النظر إلى حيثية الإلزام هو موجود وثابت، وعلية صار الحديث مجملاً، فلا يصخ التمسك به لإثبات الصحة.

إذاً المدرك لصحة هذا الشرط إذا اشترطه الواقف إما هو حديث ( المؤمنون عند شروطهم ) وقد قلنا إن هذا محل إشكال لما ذكرنا، أو صحيحة عبد الرحمن التي قال فيها ( بعث لي أبو إبراهيم بوصية أمير المؤمنين عليه السلام ... ) كما بينا وهناك أجبنا بأنه صحيح أنّ هذه الرواية دلت على أنه يجوز البيع عند الحاجة ولكن في الوقف الذي لم يكن مبنياً على التأبيد كالدار وما شاكلها فمثل هذه الأمور يمكن فيها ذلك، أما الوقف المبني على التأبيد والذي ينحصر مثاله بالمسجد فإنه لا تنفك الوقفية عن المسجد إلى الأبد فمثل هذا هل تشمله صحيحة عبد الرحمن بإلغاء الخصوصية؟ كلا إنها لا تشمله، لأننا نحتمل الخصوصية للمسجد موجودة لأن وقفيته مبنية على التأبيد على خلاف بقية الأوقاف العادية، فالتعدّي من صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج محل إشكال، ولا يبقى إلا المدرك الثالث وهو أن نقول إنَّ هذا لا يتنافى مع غرض الواقف فإذا لم تنافَ مع غرضه يكون حينئذٍ شيئاً صحيحاً، فكل شيء لا يتنافى مع غرض الواقف هو صحيح بكما لو جعلت قرآناً أو منظراً جميلاً كصورة الكعبة مثلاً في الحسينية فإنَّ هذا لا يتنافى مع غرض الواقف فلا مشكلة فيه، وبيع المسجد وإبداله بمسجدٍ آخر في منطقة أخرى لا يتنافى مع غرض الواقف فيجوز بيعه، ولكن الجواب هو إنَّ عدم التنافي يكون وجيهاً فيما إذا كان الوقف مبنياً على التمليك أما هذا الوقف فهو فكّ ملكٍ، فالواقف ليس مالكاً وإنما هو يفكّ الملك عن نفسه، إذ بمجرد أن يوقف المسجد سوف لا يبقى مالكاً وإنما يصير شخصاً أجنبياً على خلاف بقية الأوقاف، لأنَّ المسجد له خصوصية، فهو فكُّ ملكٍ لا تمليك، فلا معنى لتطبيق ما ذكر في هذا المورد.

والنتيجة من كل ما ذكرنا: - إنَّ المسجد لا يجوز بيعه لأيّ سببٍ من الأسباب وذلك لدليلين الأول الوضوح والارتكاز المتداول يداً بيد إلى معدن العصمة والطهارة عليهم السلام، والثاني هو أنه إذا جاز بيع الوقف فلابد لمجوّزٍ لذلك وهو إما الخراب أو اشتراط الواقف أو عدم المنافاة مع غرض المالك أو الموقوف عليهم، ولكن كلَّ هذه المجوّزات الثلاثة لا تأتي في بيع المسجد كما أوضحنا.


[1] ولا تقل المورد الرابع لجواز البيع هو الخلف بين أربابه فإن هذا يأتي في الوقف على الذرية ولا يأتي في المسجد.