الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/04/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 95 ) عدم جواز بيع الوقف في الجملة - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

والجواب الذي يأتي إلى الأذهان: - هو الانصراف، فإنَّ هذا المنع والنهي منصرف إلى الحالة المتعارفة للوقف بأن كان الوقف جيداً لا شيء فيه وأراد شخص أن يبيعه فهنا لا يجوز بيعه وشراءه، فالمنع منصرف إلى هذا لا ما إذا آل الخراب كما في مرودنا، فإذاً يدعى الانصراف من هذه الناحية.

ومن الواضح أنَّ دعاوى الانصراف ليست قابلة للبرهنة والاستدلال عليها وإنما هي قضايا وجدانية فقد يقبل بها أحد ويرفضها ثانٍ وقد يتردد فيها ثالث، وهذه من مناشئ اختلاف الفقهاء في الفتاوى، فإذاً مسألة الانصراف تابعة إلى نفسية الفقيه وهي هنا ليست بعيدة.

هذا ويمكن أن نطبق على المقام ما أشرنا إليه في مبحث الاطلاق ومقدمات الحكمة: - حيث أشرنا هناك إلى أنه يكن أن نضيف مقدمة جديدة إلى مقدمات الحكمة، فإذا قبلنا بهذه المقدمة الجديدة فسوف نتغلب على المشكلة في مقامنا وربما نتغلب على المشكلة في موارد أخرى، فالمشهور قالوا إنَّ مقدّمات الحكمة ثلاثة وهي أن يكون المتكلم في مقام البيان، وأن لا يكون الحكم قد توجه إلى الطبيعة المطلقة، وأن لا يكون هناك ما يوجب التقييد من قرينة خاصة أو انصراف أو غير ذلك، والآن نريد أن نذكر مقدمة رابعة وهي أن يكون الاطلاق مستهجناً على تقدير إرادة المقيد واقعاً، فإذا كان الاطلاق مستهجناً عند العرف والعقلاء فآنذاك ينعقد الطلاق ونأخذ به فمثلاً لو قال ( أعتق رقبة ) وهو لم يقيد بالمؤمنة فإذا كان يريد المقيد رغم عدم التقييد ولا يريد الاطلاق يكون إرادة المقيد عند ذكر مصبّ الحكم بنحو الاطلاق مستهجناً عرفاً فهنا ينعقد الاطلاق وتتم مقدمات الحكمة، أما إذا فرض في مورد كان مراد المتكلم واقعاً هو المقيد والاطلاق لا يكون مستهجناً ففي ثل هذه الحالة لا ينعقد الاطلاق، ومثال هذا مسألة رؤية الهلال بالعين المسلحة فإنه يوجد كلام بين الفقهاء أنَّ الرؤية بالعي المسلحة كافٍ وحجة أو لا فبالبعض قال يوجد اطلاق يقول صم للرؤية وافطر للرؤية وإذا رأيناه بالعين المسلحة فهذا مصداق للرؤية فيكون مشمولاً للإطلاق، وفي المقابل قال جماعة كلا، ونحن نريد أن نقول إنه بناءً على هذه المقدمة التي اضفناها إلى مقدمات الحكمة لا يمكن التمسك بالإطلاق فإنه لو كان مقصود الامام الصادق عليه السلام العين المجردة ورغم ذلك لم يقيد فهل يصير ذكر الحكم بنحو الاطلاق مستهجناً، يعني حينما يقول الامام عليه السلام ( صم للرؤية وأفطر للرؤية ) ويقال له إذا كان مرادك هو المقيَّد فلماذا لم تقيِّد وهل يصير الاطلاق مستهجناً؟ كلا لا يصير الاطلاق مستهجناً، أما أنه لماذا لا يصير مستهجناً فهذا ليس بمهم ولكن بالوجدان نشعر بأنه لا يوجد استهجان، ولو أننا نبرر ذلك بأنه في ذلك الزمان العين المسلحة ليست متعارفة، فهنا الاطلاق من الامام لا يكون مستهجناً في تلك التفرة الزمنية لو كان المراد واقعاً هو العين غير المسلحة بالخصوص، نعم إذا أراد أن يصدر مثل هذا الاطلاق في زماننا الذي فيه العين المسلحة كثيرة فنعم إذا كان المراد هو خصوص العين غير المسلحة يلزم التقييد، أما في الزمن السابق لو كان مراده التقييد ولم يقيد لا يكو الاطلاق مستهجناً وهذه قضية واقعية وجدانية ولو أنَّ منشأها عدم تعارف العين المسلحة زمان صدور النص، وإذا سلّمنا بهذا فالإطلاق لا يكون مستهجناً لو أنَّ المراد هو الرؤية بالعين غير المسلحة، فإذاً لا يمكن التمسك بالإطلاق.

وقد يشكل على مثال العين المسلحة بأن يقال: - لو فرض أنَّ شخصاً في زماننا رأى الهلال بواسطة النظارة فهل تتوقف عن الحكم برؤية الهلال من خلال هذه الرؤية وتقول هذه الرؤية لا تنفع لأنَّ هذه عين مسلحة؟

وجوابه واضح: - وهو أننا نريد العين المتعارفة، فإنَّ ( صم للرؤية ) هو بالعين المتعارفة عند الناس فإذا كان الانسان نظره ضعيف ولككنه بالنظارة سوف يصير نظره طبيعياً فهذا لا يضر، نعم إذا كانت النظارة ترفع قوة نظرة عشر مرات فهنا نقول هذه صارت عيناً مسلحة ولا تكفي أما النظارة الطبية التي تساعد على تقوية النظر لجعله طبيعياً فلا تعتبر العين بواسطتها مسلحة.

وإذا قبلنا بهذه المقدمة في باب الاطلاق نأتي إلى موردنا، ففي موردنا قال النص ( لا يجوز شراء الوقف ) فهنا لو كان مراد الامام عليه السلام واقعاً الوقف في حالته الطبيعية ولا يعم الوقف الذي آل أمره إلى الخراب لا يستهجن منه الاطلاق فإنَّ الامام عليه السلام ناظر إلى الحالة المتعارفة، فإذا كان مقصوده الحالة المتعارفة دون حالة أول الوقف إلى الخراب والتلف وسلّمنا بأنَّ هذا الاطلاق ليس بمستهجناً فلا يمكن حينئذٍ التمسك بالإطلاق، وهذا ليس من باب الانصراف حتى نختلف فيه فيما بيننا وإنما من باب هذه المقدمة.

وقد تقول: - من أين لك هذه المقدمة فهل هي واردة في آية أو رواية؟

قلنا: - إنَّ هذه قضايا قياساتها معها، فنحن لا نحتاج إلى دليل عليها، لكن مع ذلك نقول في مقام الاستلال على هذه المقدمة، وهي أنه إذا فرض أنَّ الاطلاق لم يكن مستهجناً وإنما كان الاطلاق جائزاً والتقييد جائزاً أيضاً، فلو كان مراد المتكلم هو المقيد واقعاً فكيف تستكشف حينئذٍ الاطلاق، بل نقول لعل مراده هو المقيد، ولو قلت لماذا لم يقيد فنقول إنك فرضت أنَّ الاطلاق ليس بمستهجن فليس لك الحق أن تقول إذاً لماذا لم يقيد إذا كان مقصوده التقييد، فدليل هذه المقدمة متبطن في داخلها ولا نحتاج إلى دليل لإثباتها، ولكن لابد أن نستوضح المقصود فإذا استوضحنا المقصود فسوف يتبين أنَّ دليلها معها، وهذه المقدمة سوف نستفيد منها في موارد متعددة، فكما طبقناها في هلال كذلك نطبقها في موردنا كما أوضحنا.

الاشكال الثاني: - التمسك بالاستصحاب، وذلك بأن يقال إنه سابقاً حينما كان سليماً كان لا يجوز بيع هذا الوقف وبعد أوله إلى الخراب إذا شككنا هل يجوز بيعه أو لا فنتمسك باستصحاب عدم جواز البيع الثابت سابقاً.

ومن الواضح أنَّ من يتيقن بجواز البيع في الصورة الأولى ولو للبيان الذي ذكرناه - من أنَّ المرتكز في أذهان العقلاء أو سيرتهم قد جرت في هذه الحالة على بيع الوقف قبل تلفه إذا آل إلى التلف وشراء بدله وحيث لا ردع فيثبت الامضاء - فإن أفادنا هذا البيان القطع فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب لأنه يوجد عندنا قطع بجواز البيع والاستصحاب فرع الشك، أما إذا فرض أنَّ شخصاً قال لا يوجد عندنا قطع ولم نقبل بهذه السيرة فحينئذٍ نقول إنه على مبنى السيد الخوئي والنراقي لا يجري هذا الاستصحاب، لأنه استصحاب في باب الأحكام وهما لا يقولان بجريانه للمعارضة، فنحن نستصحب حرمة البيع فسابقاً كان يحرم بيعه والآن نستصحب بقاء حرمة البيع والسيد الخوئي من المناسب على مبناه أن يجيب ويقول إنَّ هذا الاستصحاب معارض بأصالة عدم الجعل الزائد فنحن نشك أن المولى في بداية التشريع هل جعل الحرمة للبيع حتى لو آل الوقف إلى الخراب أو جعلها في حصة خاصة وهو إذا لم يؤل إلى الخراب أما إذا آل إلى الخراب فلا وجد جعل للحرمة والذي نجزم به هو أنه جعل الحرمة إذا لم يؤل إلى الخراب أما إذا آل إلى الخراب نشك في الجعل الزائد، فاستصحاب المجعول - يعني الحرمة الفعلية - إلى الآن معارض بأصالة عدم الجعل للحصة الزائدة، ولذلك على مبنى السيد الخوئي دائماً الاستصحاب في باب الأحكام لا يجري للمعارضة بين استصحاب بقاء المجعول وأصالة عدم الجعل الزائد، وإذا بنينا على هذا المبنى فواضح أنَّ هذا الاستصحاب لا يكون جارياً، وأما إذا لم نقبل بهذا المبنى فهل يوجد جواب آخر أو لا؟