الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/04/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 95 ) عدم جواز بيع الوقف في الجملة - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

وقد يقول قائل: - إنَّ الشق الأول الذي ذكره الشيخ الأعظم(قده) - وهو تعطيل العين الموقوفة إلى أن تتلف - لماذا هو لا يجوز وحرام، أوليس الانتفاع بالوقف ليس بلازم؟!! فمثلاً الجيل الجديد يتفقون فيما بينهم على إنَّ هذا الوقف - كالبستان البعيد - يتركونه فلماذا هذا حرام، وهل الانتفاع بالعين الموقوفة واجب؟!! إنَّه لا يقول أحد بوجوب الانتفاع من العين الموقوفة ولا يحتمل هذا، فلماذا ذكر الشيخ الأعظم(قده) هذه المقدمة وقال إذا أردنا أن نعطّل الوقف فسوف يلزم من ذلك تضييع حق الله تعالى وحق الموقوف عليهم وحق الواقف، كلا بل يجوز ترك الوقف حتى يتلف ويضمحل من دون إشكال ولا يقول أحد بأنَّ هذا الشيء حرام.

قلنا:- ليس مقصود الشيخ الأعظم(قده) أنه يحرم غلق باب الوقف- كالدار - وإنما المقصود هو وجوب غلق الباب، أي نقول يجب أن يغلق باب الوقف كي لا يتلف وحتى يبقى سالماً لبقية الأجيال كي تستفيد منه، فنحن لا نريد الاستفادة منه فلنسدّ بابه وليبق للأجيال اللاحقة، فالشيخ الأعظم(قده) يريد أن يقول هل يجب علينا نحن الجيل الموجود أن نترك الاستفادة من الوقف حتى لا يضمحل ويبقى إلى الأجيال اللاحقة، فمثلاً افترض أنَّ الوقف كان فراشاً فلو استفدنا منه فسوف يضمحل فنحن لابد أن نحتفّظ به ولا ننتفع به حتى تتمكن الأجيال اللاحقة من الاستفادة منه، وهل هذا حرام ؟ كلا ليس بحرام بل نعم ما تصنعون، فالشيخ لا يريد أن يقول إنَّ هذا حرام، وعبارته لم يصرح بها لا بهذا ولا بذاك ولكن مقصوده هو الوجوب، فلا يحتمل أنه من الواجب أن نتحفظ على هذا الفراش حتى يستفيد منه بقية الزوار الحسين عليه السلام مثلاً في السنين الآتية، فالشيخ الأعظم(قده) يتكلم عن حيثية الوجوب، فهو يقول لا يوجد وجوب هنا، لأنه إذا كان يحب التحفّظ على الوقف فإنَّ هذا يكون تضييعاً على الموقوف عليهم، لأننا أيضاً موقوف علينا فلماذا يجب علينا أن لا نستفيد ويستفيد منه الجيل اللاحق؟!!، وكذلك هو تضييع لحق الواقف، لأنَّ الواقف يريد أن يستفيد من وقفه الآن لا للأجيال اللاحقة دوننا، وكذلك هو تضييع لحق الله عز َّوجل، فإنه قربة إلى الله تعالى ونحن من خلق الله تعالى فنستفيد منه، أما أنه يجب علينا أن نتركه إلى بقية الأجيال فهذا غير ثابت، فإذاً هو مقصود الشيخ الأعظم(قده)هو هذا

وقد ناقش الشيخ الأعظم(قده) الشق الثاني وقال: - أنت قلت إما أنه يلزم الترك حتى تستفيد منه بقية الأجيال - وقد قلنا إنَّ هذا باطل - أو نقول فليستفد منه هذا الجيل كالدار ودعه يتلف ولا يستفيد منه الجيل الثاني وهذا هو الشق الثاني - ولكن هذا منافٍ لحق الأجيال اللاحقة، ولكن الآن يريد أن يتراجع - وهذا نعم التراجع فإنه شيء وجيه ولا بأس به - حيث قال: - ولماذا هذا الشق الثاني يكون باطلاً؟!! بل لنلتزم به ونقول إنَّ هذا الجيل الموجود هو يستفيد من هذه العين الموقوفة من دون أن تباع، فهذا الفراش لا يباع وإنما يستفيدون ويستفيدون منها إلى أن تتلف، وحتى لو قلت إنه بناءً على هذا فسوف لا تستفيد الأجيال اللاحقة منها فنقول دعهم لا يستفيدون منها فإنَّ المقصود هو استفادة من يمكن أن يستفيد منها أما أنَّ كل الأجيال لابد أن تسفيد من الوقف فلا يلزمنا التحفظ على هذا الوقف حتى تستفيد منه كل الأجيال، بل أنت أيها الجيل الموجود استفد منها حتى لو لزم من ذلك تلف هذا الشيء الموقوف فإنه لا يلزم التحفظ عليه إلى الجيل الآتي مادام المطلوب هو انتفاع الأجيال، وهذا مقبول عقلائياً، فإنه عقلائياً يمكن أن يقال إنه لا مانع من أن يستفيد هذا الجيل الموجود من الوقف وإن لزم من ذلك اضمحلال الوقف غايته سوف لا يستفيد منه الجيل اللاحق وهذا لا محذور فيه، قال:- ( إذا كان الوقف مما لا يبقى بحسب استعداده العادي إلى آخر البطون فلا وجه لمراعاتهم تبديله بما يبقى لهم فينتهي ملكه إلى من أدرك آخر ازمنة بقائه ) [1] وبهذا بطل الدليل الثاني ذي الشقوق الثلاثة، فلا يمكن التمسك به، ويبقى الدليل الأول فقط للشيخ الأعظم(قده) الذي قال فيه إنه يوجد قصور في المانع من بيع الوقف وهو ما سيأتي بيانه.

بيد أنَّ السيد الخوئي(قده) لم يرتضِ هذه المناقشة في الشق الثاني من الشقوق الثلاثة من قبل الشيخ الأعظم(قده) حيث قال:- إنَّ الواقف هو يعلم أنَّ هذا الشيء لا يبقى إلى جميع الأجيال بعينه وبشخصه فلابد أنه يريد أنه مادام يمكن الانتفاع بالعين مع وجودها فلتبقَ وإذا آل أمرها إلى الاضمحلال بحيث لا تستفيد منها بقية الأجيال فلابد من إبقاء ماليتها ضمن عينٍ أخرى، فهو يعلم أنَّ هذا الفراش مثلاً لا يبقى مائة سنة مثلاً فلابد أن يكون مقصوده هو أنه مادام يمكن الانتفاع بهذا الفراش فبها وإن لم يمكن الانتفاع به وتخوّف عليه من التلف بيع واشتري بدله فراشاً آخر حتى تنتفع به بقية الأجيال.

فإذاً السيد الخوئي(قده) تمم هذا الدليل الذي ذكره الشيخ الأعظم(قده) ودافع عنه بهذا الدفاع، فهو قال إنَّ الواقف بعد التفاته إلى أنَّ العين الموقوفة غير قابلة للبقاء إلى الأبد فلا مناص من أنّه يوقف العين بشخصها مادامت باقية يمكن الانتفاع بها بشخصها وبماليتها ضمن أيّ شيء كان إذا لم يمكن ذلك، قال ما نصه:- ( إنَّ حبس شخص العين محدود بما إذا أمكن الانتفاع بها مع بقائها وبدونه تتكون المالية وقفاً ضمن أي شيء كان وليست العين حينئذٍ محبوسة فحينئذٍ يجوز تبديلها )[2] .

ويرد عليه: -

أولاً: - إنَّ هذا استعمال في أكثر من معنى وهو لا يمكن، فإنه قال أوقفت هذا البستان مثلاً وأنت تقول يعني أني أوقفت عينه إلى الأدب مادام يمكن ذلك وإلا فيشتري الوقف البدل، وهذا معنىً ثانٍ، واستعمال الكلام الواحد في معنيين غير ممكن.

إن قلت: - إنَّ مقصوده ليس هو الاستعمال في معنيين، فصحيح أنه قال أوقفت العين على الأجيال، وهو قد استعملها في معنىً واحد - أي على الأجيال - ولكن مقصوده كقصدٍ هو أنه إذا أمكن فبها أما إذا آل أمرها إلى الخراب فيباع الوقف وأوقفت البدل، فالتعدد هو في عالم المقصود وليس في عالم المستعمل فيه.

والجواب: - إنه كما يحتمل أن يكون هذا هو المقصود للواقف يحتمل أن يكون المقصود له أني أوقفت العين دون البدل - يعني بالمقدار الذي يمكن - وكلا الاحتمالين جيه، فأنت حينما توقف داراً على الأجيال فكما يحتمل أنَّ مقصودك أنه متى ما آلت إلى الخراب فتباع ويشترى بدلها داراً أخرى صغيرة كذلك يحتمل أنَّ مقصودك من جميع الأجيال هي الأجيال التي يمكنها الاستفادة منها أما إذا لم يمكن بعض الأجيال الاستفادة منها فلا مشكلة، فإذاً لا يتعيّن مقصود الواقف في الاحتمال الأول، بل الاحتمال الثاني أيضاً هو شيء محتمل وعقلائي.

ثانياً: - إنَّ هذا لو كان مقصوداً للواقف فعليه أن يبيّن ذلك في الوقفية، لأنه في مقام البيان والتفصيل، فهو حينما يقول هذه الدار وقفٌ على ذريتي ما تناسلوا فإذا كان مقصوده أنه يشترى البدل ويوقف إذا آل أمر هذه الدار الخراب بحيث لا تستفيد منها بقية الأجيال لبيّنه في الوقفية، فعدم بيانه يدل على أنه لا يقصد ذلك ويقصد أنه مادام يمكن الانتفاع فبها ونعمت وإذا أرادوا أن يبيعوها بعد ذلك فهذه قضية ثانية، لا أنهم ملزمون بالبيع والتبديل فإنَّ الالزام ليس موجوداً.

والخلاصة: - إنه إذا كان هذا هو مقصود الواقف كما أفاد(قده) فهذا يحتاج إلى تفصيل الواقف، وعدم تفصيله يدل على عدم لزوم ذلك.

هذا كله بالنسبة إلى ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) في هذا المجال مع التعليق عليه، وقد اتضح أنَّ الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ الأعظم(قده) هو بنفسه مرفوض عند نفس الشيخ الأعظم(قده) لأنه ناقشه، والسيد الخوئي أراد أن يدفع مناقشة الشيخ الأعظم(قده) ويتممه ولكن نحن لم نقبل بذلك.

[1] كتاب المكاسب (للشيخ الأنصاري) ط تراث الشيخ الأعظم، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج4، ص62.
[2] التنقيح في شرح المكاسب، الخوئي، السيد أبوالقاسم - الشيخ ميرزا علي الغروي، ج2، ص273.